وقف أربعة صبية أمام حشرةٍ مجروحة تتلوّى على الأرض، لا هي إلى الموت ولا هي إلى البقاء، قرّر اثنان منهما قتلها بالحذاء، وقرّر الآخران تركها دون تدخّل .

أمّا الأول فقد قرّر قتلها رحمةً بها من الوجع، وأمّا الثاني فقد قرّر قتلها ليستلذّ بمشهد حيوانٍ ضعيف يموت تحت أقدامه، وأمّا الثالث فقد قرّر تركها لأنّه يؤمن بحقّ كلّ مخلوق في النّزاع من أجل البقاء، وأمّا الرّابع فقد قرّر تركها ليتأمّل ساخرًا منظرها وهي تتقلّب من شدّة الوجع .

هكذا يصبح لدينا صورتين فقط من ردود الفعل تّجاه مشهدٍ واحد، لكنّ هاتين الصورتين تحملان أربعة دوافع مختلفة، وإذا كان لدينا خمسة صبية أو عشرة أو حتّى ألف فسنُفاجئ بردّتي فعل تخبّئان خلفها عدد الصبيّة من الدوافع النفسيّة والنوايا .

الأمر الآخر هو أنّ محاكمة ردّة الفعل دائمًا ما تنخدع بصورته متلبّسةً دوافعنا الخاصّة وتتغافل عن دوافع الفاعل نفسه، فالصبيّ الأوّل سيقف في صفّ الصبيّ الثاني وسيعارض الثالث بكلّ قوّة، لأنّ صورة ردّة فعله تتشابه مع الثاني وتختلف مع الثالث، هكذا يقع فريسة ضعف النّظر البشريّ الّذي كثيرًا ما يحوّله الجهل إلى عمى .

فلسفيًا، تُعرّف المحاكمة الأخلاقيّة الّتي تستند على ظروف الشّخص وتاريخه ودوافعه بالنسبيّة الأخلاقيّة، المتديّنون – بالذّات المسيحيّون – يعارضون هذه النظريّة لأنّ الأديان من وجهة نظر معتنقيها أحاديّة، والمتديّنون يؤمنون بأنّ النسبيّة تهدم الأسس الأخلاقيّة العامّة الّتي جاء بها الأنبياء حين تسند الأخلاق إلى الشّخص نفسه، فالكذب والخداع والخسّة والدناءة تصبح لها مبرّراتها الشخصيّة حين نعول بها إلى الأفراد، لكنّ فلاسفة الأخلاق يردّون هذا الاتّهام بدفاعهم عن المبادئ العامّة – أو المعروفة بالكلّية – مثل : لا تؤذي أحدًا، اعدل بين النّاس، كن رحيمًا .. إلخ .

ما أردتُ قوله باختصار هو : لا تحاكموا النّاس بصور أفعالهم ولا تنظروا إليهم وأنتم ترتدون نظّاراتكم الشخصيّة، استمعوا إلى دوافعهم وتأمّلوا في تاريخهم الفكريّ والعائليّ ثمّ أصدروا أحكامكم، وإذا عجزتم عن معرفة الإنسان فلا تقولوا شيئًا .. أؤكّد لكم حينها بأنّكم لن تجدوا أحدًا لتحاكموه وستعيشون مع الآخرين بسلام  🙂

6 رأي حول “لا أحمل أخلاقك !

  1. تدوينة رائعة يا أحسان ..
    فعلاً الكثير ينظر للأشخاس بعدساتهم الشخصية ليحكمون عليهم وكأنهم العالمين بما تُخفيه الصدور
    ..
    سلمت يدايكِ على تسطير تلك الحروف الواعية
    لاتحرمينا 🙂

  2. من أكبر الأخطاء في الحكم هو تجريد الفكرة عن الشخص، فالشخص عنصر أساس في الفكرة ولكن ليس لتبرير الأخطاء ولكن لتقييم مدى مصداقية الفكرة، فالفكرة الواحدة تخرج فيراد بها خير وتخرج هي ذاتها من شخص آخر فيراد بها باطل.
    رفع الله قدرك وزادك حكمة  

  3. تبقى هناك مساحة ما بعد الإعذار و تلمس الأسباب تبين لنا شيئاً من اللؤم البشري ،،
    لكن كما قال لنا ذات مرة دكتور مصري ” تخصصه القانون ” : في الأخلاق نبني تصوراتنا على حسن الظن و الأعذار و في القانون نبنيها على سوء الظن و المؤاخذة بالجرائر !

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.