الجماهير المجرمة :
إنّ أقبح الجرائم الّتي حدثت تاريخيًا تلك الّتي ارتكبتها الجماهير تحت التأثير الطاغي لقادتها أو لعقائدها – ليس شرطًا أن تكون عقيدة دينيّة ولكنّها الأقوى تأثيرًا – وقد كان الباحثون النفسيّون في أوروبّا خلال فترة طويلة ينظرون بسلبيّة مطلقة إلى أيّ جمهور من النّاس، فوصفوا الجماهير بالمجانين تارة (سواء أكانوا جماهير كرة قدم أم جماهير تابعين لقائد عسكريّ) ووصفوهم بالرّعاع الهمجيين تارة أخرى، وأخيرًا أصبغوا على الجماهير صفة الإجرام، وأصبحت أيّ مجموعة من النّاس تكوّن جمهورًا – في نظر الكثير من الباحثين – قادرة على ارتكاب أبشع الجرائم .
ونحن نستغرب هذه الفكرة الّتي تتناسى وجود الجماهير الصالحة في الحضارات الإنسانيّة، لكنّنا إذا تأمّلنا في الجرائم الّتي ارتكبتها الجماهير الأوروبّية في العصور الوسطى أو حتّى خلال الثورة الفرنسيّة فسنفهم لماذا فكّر الباحثون بهذه الطّريقة، وسأتحدّث عن جريمة جماهيريّة بشعة حدثت أثناء الثورة الفرنسيّة وذكرها أحد مؤسّسي علم النّفس الاجتماعيّ غوستاف لوبون في كتاب سيكيولوجيا الجماهير .
تُعرف الجريمة باسم ” مذبحة سبتمبّر في باريس” وقد بدأت في تاريخ ٢ سبتمبر من عام ١٧٩٢ واستمرّت لخمسة أيّام متتالية، حدث الهجوم الأوّل حين تمّ نقل ٢٤ من الكهنة إلى سجنٍ يُدعى L’Abbaye ، فهجم عليهم جمهور من الثوّار الفرنسيين النّاقمين على الكنيسة الرومانيّة الكاثولوكيّة – ٣٠٠ من الرّجال الحرفيين والحدّادين والإسكافيين والوسطاء التجاريين وقليل من الأوغاد – ، فقتلوا جميع الكهنة، ثمّ استمرّت المذبحة لتطال ١٢٠٠ من المسجونين من بينهم نساء أرستقراطيّات وما يُقارب المئة طفل .
المشاهد الّتي نقلها شهود المذبحة مروّعة جدًا، ولا تزال فرنسا تتحدّث عنها بحزنٍ حتّى الآن، وُجدت إحدى السيّدات من طبقة النّبلاء وتُدعى الأميرة ممّي دي لامبلي مُغتصبة ومشوّهة ومنتهكة، وقد انتزع أحد الرّجال قلبها وقام بأكله، وأُجبرت سيّدة صغيرة على شرب دم أحد الضّحايا نظير الحفاظ على حياة والدها .
لكنّ شيئًا آخر بعيد عن هذه الوحشيّة هو ما أثار اهتمام غوستاف لوبون في المذبحة، بعض الأخلاق الغريبة الّتي أظهرها مرتكبوا الجريمة، يقول لوبون: هم مقتنعون بأنّهم ينجزون واجبًا وطنيًا، إنّهم يقومون بوظيفة مزدوجة، فهم في آنٍ معًا القضاة والجلاّدون ولا يعتبرون أنفسهم مجرمين أطلاقًا، ثمّ يصف تلك الأخلاق فيقول: كانوا مثلاً ينقلون إلى طاولة اللجان كلّ المال والجواهر الّتي وجدوها في جيوب الضّحايا … أثناء القيام بالمجزرة يُخيّم على الجميع نوع من الفرح اللطيف والجميل، فهم يغنّون ويرقصون حول الجثث ثمّ يصفّون المقاعد للسيّدات السّعيدات بمقتل الأرستقراطيين … كانوا مقتنعين بأنّهم قد استحقّوا منّة الوطن، فتّوجّهوا إلى السلطات طلبًا للمكافأة، بل وإنّ أكثرهم حماسًا راحوا يطالبون بالميداليّات .
جريمةٌ باسم الله :
كنتُ أجلس بجانب صديقة مقرّبة حين سألتِ الشّيخ سلمان العودة أمامنا : يا شيخ ما رأيك بما فعله الهاكر السعوديّ عمر؟ ثمّ أردفت بحماس: تناقشت مع صديقات مصرّات على أنّ ما فعله تخريب غير مبرّر، بينما أنا يا شيخ .. أنا أعتقد بأنّ اسرائيل هي عدوّة لنا، وبأنّ أموال الاسرائيليّين ودماءهم مباحة !
ضحكتُ حينها وقلتُ لها مازحة: إرهابيّة ! والحقيقة أنّ عشرات الصّور الدمويّة والإجراميّة الّتي قرأتُ عنها تمثّلت أمامي وأنا أسمعها، وتذكّرتُ اقتباسًا قرأته : ” لقد مثّلت الأيديولوجيات السياسية والدينيّة السّبب الرئيسيّ للعنف الّذي نشب بين الأشخاص عبر التاريخ “ .
لا أجادل في قضيّة فلسطين، لا أساوم على حقّ العودة وحقّ الأرض وحقّ الاقتصاص لشهداء وأسرى الستّين عامًا، لا أنكر جرائم الصّهيونيّة القذرة في فلسطين، لستُ من دعاة السّلام المطلق فهذه الدّعوة مثاليّة أكثر ممّا يحتمل البشر، لكنّ كلّ هذا لن يجعلني أنجرّ إلى استباحة دم أو مال أو عرض اليهود والاسرائيليّين دون تمييز بينهم، فبمراجعة بسيطة للتاريخ نجد أنّ هذا المنطلق الأخلاقيّ والقوميّ الّذي انطلقت منه صديقتي وينطلق منه كثير من النّاس هو ما قادهم للاستجابة لأوامر القادة السياسيين بارتكاب الجرائم والمجازر الجماعيّة باسم الله .
ولن نذهب بعيدًا عن فلسطين بل سنتحدّث عن الحروب الصليبيّة الدمويّة هناك، ما الّذي جعل آلاف الرّجال والأطفال يخرجون في حملاتٍ ضخمة لقتال المسلمين في فلسطين وارتكاب مجازر من أبشع ما عرف عنها العالم تاريخيًا ؟
لقد خطب فيهم البابا وأخبرهم بأنّ الله سيغفر خطاياهم ويغسلها إذا خرجوا لقتال المسلمين، والأهمّ أنّ الخليفة الفاطميّ الحاكم بأمر الله كان قد هدم كنيسة القيامة في عام ١٠٠٩ للميلاد، فاستُغلّ هذا التدمير لتجييش المسيحيين في أوروبّا ضدّ المسلمين كافّة، وأنا أذكر هذه النّقطة بالذّات لأبيّن كيف تُستغلّ مطالب عادلة في دفع النّاس لارتكاب الجرائم المخزية * .
فباسم تخليص بيت المقدس وباسم الدّفاع عن المسيح وباسم الله، قُتل عشرات آلاف الرّجال والأطفال والنّساء وشُقّت بطون الحوامل ودُمّرت مدنٌ كثيرة، وكلّما وهنت معنويات الجيوش الصليبيّة كان قادتها يلجؤون إلى تعزيزها بالتّذكير بالله وبما عنده من ثواب نظير قتال الكفّار المسلمين .
ومن أشهر القصص المرويّة، ما ذكره المؤرّخون عن القائد الصليبيّ بوهيموند الّذي احتلّ أنطاكيا ودمّرها وقتل أبناءها ، حين شعر هذا القائد العسكريّ بالوهن يدبّ في جيشه بينما هو واقعٌ لا محالة في معركة مع المسلمين، أشاع بواسطة كاهن من أهل مرسليا أنّ القدّيّس أندراوس الرّسول ظهر لهذا الكاهن في الحلم ثلاث مرات ليدلّه على مكان في كنيسة القدّيس بطرس بأنطاكيا دُفنت فيه الحربة التي طُعن بها المسيح عليه السلام، وأنهم إذا حفروا ووجدوا الحربة وحملوها أمام جيوشهم فسينتصرون لا محالة، وبالفعل فقد حفر الرّجال في ذات المكان الّذي دلّهم عليه الرّاهب ووجدوا حربة كان قد وضعها بوهيموند من قبل، فدبّت الحماسة فيهم من جديد وعادوا لقتال المسلمين!
عجيبٌ كيف أنّ اسم المسيح عليه السّلام الّذي جاء دينه بالمحبّة والرّحمة يُستغلّ لتمرير هذا الحقد الجماهيريّ، وعجيبٌ كيف أنّ الله أرسل الرّسل بالأديان لإشاعة السّلام والعدل بين النّاس، فتصبح الأديان على يد القادة السياسيين مطيّة لاندلاع الحروب أو لتبرير الظّلم كما حصل في دولٍ وخلافاتٍ إسلاميّة كثيرة .
وليس بعيدًا عنّا مشهد العلويّون في سوريّا وقد انجرّوا طائفيًا خلف حكومتهم العفنة – أنكر من أنكر وصدّق من صدّق – لقتل الأطفال والنّساء والشّباب وتعذيبهم .
.
.
المراجع :
كتاب سيكيولوجيا الجماهير – غوستاف لوبون
مقال علمي و علمي بالدرجة الأولى ثم تحليلي مميز
أحيانا أفكر هل حقيقة أن الجرائم التي تحدث بالدافع الديني الغاسل لكل معنى انساني قد يكبحها .. هل هذه الحقيقة الهدف منها أن نفهمها و نحلل ما يحدث أمامنا بسببها .. أم ربما نستثمرها ؟
أقول نستثمرها بالمعنى العام خلفها و ربما بالعام الخاص و الخاص جدا كما يحدث من قيام ثورات تحتاج لبعض الدماء التي تسيل و بعض الجرائم من الناحية الانسانية لكنها منطقية من الناحية الحربية البحتة !
تساؤل و تفكير بصوت عالي فقط 🙂
أهلاً بك يا سامي، شرّفني وجودك 🙂
أنا أيضًا فكّرتُ بهذا كثيرًا، ولا أخفيك أنّي خطّطت لكتابة مقال حول استغلال الجريمة أو العنف الأخلاقيّ ! لكنّي خرجتُ بكميّة من التساؤلات وآثرتُ التريّث .
شكرًا لك ^^
ماشاء الله تبارك الرحمن موضوع شيق جدا بقدر ما اثرانا من معلومات فقد طرح تساؤلات كثيره
ماتمنيت انك وقفتي اسلوبك رائع اتمنى يكون فيه تكملة للموضوع
يشمل افكار كثيرة مثل ذكرك لأحداث سبتمبر ومقارنة الافعال ب(خلع قلب. شرب دم) ثم (يغنون يرقصون . استحقوا منة الوطن) عندها وقفت كثير وثارت تساؤولات كثيرة منها كيف يكون التنفيس عن التراكمات النفسية والمطالب المكبوتة في لحظات الانفجار وكيفية ضبط النفس التي طالما شحنت, في حالات التمكين.
اما الخطاب الديني كثير ما استخدم من قبل ضعاف النفوس لتحقيق مطالب فقدسيته لدى العامه لها تأثير كبير.
بشوق في انتظار مقالك القادم
شكرًا لك حمد 🙂
وبالفعل، ضبط النّفس بعد سنوات من الامتلاء بالغلّ والمطالب المكبوتة صعب جدًا، وأعتقد أنّ هذه هي مهمّة القادة الأحرار الحقيقيين، لا قادة المصالح الدنيويّة .