” وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ * فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ “

لم أستطع أن آخذ آية من هذه القصّة وأترك أخرى، هذه الآيات مدهشة .. عميقة .. ممتلئة بإبراهيم عليه السّلام !

إبراهيم آسرٌ جدًا في علاقته مع الله عزّ وجلّ، إنّه خليله الّذي كان ” أمّةً ” بين النّاس، وكلّ آية تتحدّث عن إبراهيم في القرآن عليك أن تكرّرها ألف مرّة في نفسك حتّى تلمس هذه الرّوح التوّاقة إلى ربّها، المتلهّفة لمعرفته .. الرّوح الصّادقة المتحرّرة ممّا يعبد الآباء، الرّوح الّتي كان أوّل ما آمنت به أنّ الله لا يأفل كما تأفل النّجوم والكواكب، ثمّ اصّاعد إيمانها حتّى كان أن وضعت السكّين على نحر الابن استجابة لهذا الإله الّذي لا يأفل !

وإبراهيم آسرٌ أيضًا في علاقته مع النّاس، لقد جعلني أؤمن بأنّه ما من شخص يحاول إصلاح علاقته مع الله إلاّ أصلح علاقته مع النّاس، وإبراهيم كان رحيمًا بقومه مشفقًا عليهم لم يتعرّض لهم ولو بدعوة ساخطة، وفي هذه الآيات تتجاوز رحمته قومه إلى قوم لا يعرفهم، ليس بينه وبينهم صلة نسب أو مصاهرة أو معاشرة، إنّما هي الرّحمة الإنسانيّة الخام !

تخيّل المشهد، الملائكة يبشّرونه وزوجه بإسحاق ويعقوب، سارة تضحك بشدّة متعجّبة من هذه المعجزة وإبراهيم مذهول بما يحدث، لكنّه ينشغل عنها وكأنّه أمر لا يخصّه .. ينشغل عن نفسه وزوجه .. ينشغل عن الحلم الجميل .. ينشغل بمجادلة الملائكة حول تعذيب قوم لوط : فلمّا ذهب عن إبراهيم الرّوع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط، هذه الجملة .. يا الله ماذا تفعل بي هذه الآية !

لقد حقّق الله لإبراهيم أمنية قديمة : فلمّا ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى، فكان ردّ إبراهيم أنّه : يجادلنا في قوم لوط ! كيف يفهم النّاس خصوصيّة تلك العلاقة بين هذا الرّجل وربّه، حتّى أنّ الله لم ينسب جدل إبراهيم إلى الملائكة بل نسبه إلى نفسه وكأنّه يدخل مع الله في حوار ! لأنّ إبراهيم لم يجادل في حكم الملائكة – فالملائكة رسل الله فحسب – لكنّه جادل في حكم الله، لعلّه أراد من الله أن يمنحهم فرصة أخرى، أو لعلّه أراد أن يؤخّر عنهم العذاب، أو ربّما أراد أن يغفر لهم إسرافهم !

ماذا كان ردّ الله عليه ؟ هل عاتبه أو عنّفه لأنّه يعترض على مشيئة الله ؟ لا، بل إنّه وصفه بأجمل وأرقّ ما يُوصف إنسان : إنّ إبراهيم لحليمٌ أوّاه منيب … ياااااااه !

أين أولئك الّذين يفرحون بذنوب الآخرين ويتعطشون لتعذيبهم ومعاقبتهم بل وربّما قتلهم من رحمة نبي الله إبراهيم؟ كيف يتجاوزونه ويتجاوزون أخلاقه الحنيفيّة بهذه الصورة الفجّة ! إنّ قوم لوطٍ كما جاء في القرآن كانوا مسرفين في معاصيهم وذنوبهم، ومع ذلك استشفع لهم إبراهيم وتمنّى لو كان بيده إيقاف العذاب عنهم .. يا الله .. من أيّ شيء خلقت روحه الطّاهرة ؟

ثمّ أمره الله بلطف أن يعرض عن هذا الأمر، لأنّ عذاب الله قد قُدّر عليهم ولا رادّ له، ولفظ ” أمر ربّك ” يدعو إلى التأمّل، إذ أنّه ليس بيننا الآن إبراهيم يوحي إليه الله بحكمه وينزّل عليه الملائكة، إنّما معنا كتاب الله للاجتهاد في تحقيق حكمه على الأرض، لكنّ المشكلة هي أنّ فهمنا لهذا الكتاب يتفاوت حدّ التّناقض، وكلاّ يدّعي أنّ أمره هو ” أمر ربّك ” !

تأمّلات في سورة هود ( ١ )

3 رأي حول “تأمّلات في سورة هود ( ٢ )

  1. يااااااااااااااااااااااه…….. جميلة رائعه المقالة
    احببتها بكل حروفها وماتمنيت تنتهي
    ورجاء خاص جداً اتمنى تكتبي مقال منفرد عن نبي الله ابراهيم عليه السلام
    احساسك رائع 🙂

  2. حقيقة العلاقة بين النبي وربه سبحانه تختلف عن علاقة بقية البشر مع خالقهم.
    الرسول صلى الله عليه وسلم راجع ربه سبحانه في شأن الصلاة أكثر من مرة بعد أن أخبره موسى عليه السلام أن لا طاقة لأمتك بذلك العدد من الصلوات.
    أما طبيعة علاقتنا مع الله فليست قائمة على المراجعة بل على الإتباع.
    فلا نقارن عدم عتاب الله سبحانه لإبراهيم الخليل عليه السلام بباقي البشر ونضع أنفسنا بمنزلة إبراهيم الرسول.
    ولا ننسى أن الله سبحانه عاتب نبيه صلى الله عليه وسلم في أكثر من موضع في القرآن.
    قال تعالى (ولو شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا)
    وقال تعالى (عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى)

    أما بالنسبة إلى فهمنا للقرآن والسنة وكونه يتفاوت وقد يصل إلى التّناقض فهذا صحيح.
    ويكون ذلك عند إنزال النصوص على العقل والرأي وجعله مناط الاستساغة أو الكراهية للحكم على تلك النصوص.
    ويكون التفاوت والتناقض أيضا عندما يكون الاجتهاد في مواضع جاء فيها الدليل صريحا بالقرآن والسنة وأكّده العلماء المحققون في العصور الماضية.
    أو عندما يكون المجتهد ليس أهل للإجتهاد وليس من أهل العلم.
    وفي حقيقة الأمر كل ذلك لا يرقى إلى منزلة (الاختلاف), لأن الاختلاف المعتبر هو اختلاف بين أهل العلم. وليس اختلاف بين أهل العلم وأهل علم الكلام.

    والحل عند حصول ذلك الاختلاف (اسميه اختلاف تجاوزا فقط وهو ليس بخلاف) هو الرجوع إلى القرآن والسنة عند ((أهل السنة والجماعة)) وهم أتباع الأئمة الأربعة.
    فإن كان هناك اختلاف معتبر بين علماء أهل السنة والجماعة في قضية ما فيعمل كل واحد بالاختلاف ولا حرج (ويختار بين الرأيين بقلبه لا بعقله) لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (استفت قلبك)
    والحمد لله فالأئمة الأربعة لم يختلفوا في أصول العقيدة ولهذا جمعتهم راية أهل السنة والجماعة.
    وبالتالي لم يتبقى إلا اتباع أمر ربك.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.