كان ذلك منذ عدّة أشهر، عندما أخبرتُ سمر – صديقة الجمال والأفكار الخلاّقة – بأنّني مللتُ كون إنجازاتي اليوميّة كلّها تتعلّق بافتراضات لا أستطيع لمسها بيدي أو شمّها أو صبغها بألوان حيّة: أنا أقرأ، وأكتب، وأبرمج، وأثرثر، وأصمّم واجهات .. لكنّي لا أستطيع لمس كلّ ذلك، إنّه إمّا موجود في عالم غيبيّ أو في عالم افتراضي !

أحتاج إلى إنجاز ملموس، يمنحني الإحساس بأنّ أصابعي لا تزال حيّة، أحمله إلى صديقاتي، يبعدني عن هذه التقنيات القاتلة قليلاً، أخبرتها بأنّي أحسدها لأنّها تحمل كاميرا بينما التّصوير شيء لا يروقني، وبأنّها رسّامة بينما حُرمت أنا من مهارة اللعب مع القلم والفرشاة، كنتُ محبطة من نفسي .. أشعر بالفشل، قالت لي سمر حينها : جرّبي الخياطة أو الكروشيه، فضحكت .. تذكّرتُ أمّي وهي تقول لي : الخياطة لا تناسبكِ، إنّها تحتاج إلى صبر عظيم وهذا معدوم لديكِ !

في النّهاية أقنعتني سمر بتجربة الكروشيه، اللعب بكرات الصّوف الملوّنة وعمل قبعات وحقائب صغيرة وهدايا للصديقات بها، أخبرتُ أمّي عن نيّتي فضحكت: إحسان كم مرّة قلت لكِ بأنّ هذا لا يناسبك ! أنتِ صبورة في البرمجة .. البرمجة فقط، أمّا التّعامل مع الإبرة فهو يحتاج إلى فتاة أخرى لا تشبهكِ، أتحدّى لو استطعتِ عمل الغرزة البدائية !

ومع ذلك فقد ذهبت أمّي إلى السّوق، جلبت لي كرات الصّوف الصفراء والوردية والبيضاء والزرقاء، وعلبة يابانية تحمل سنّارات بمقاساتٍ سبع، وقفتُ أمامها مثل طفلة، شعرتُ بالانتشاء وبأنّني حصلتُ على هوايةٍ تُلمس باليدين، بقيَ أمامي الآن أن أتعلّم، كتبتُ في تويتر عن نيّتي وعمّا إذا كان هناك من ستشاركني التعلّم، كان حماس الصّديقات قصيرًا، في النّهاية لم يشاركني أحد 😦

لكنّ اليوتيوب هو الحلّ، كتبتُ في مربّع البحث : crochet tutorial ، وظهرت آلاف الفيديوهات أمامي .. وااااااو من أين أبدأ ! ووجدت هذين الدرسين فساعداني كثيرًا، أعدتُ مشاهدتهما أكثر من ١٠ مرّات قبل أن أحمل السنّارة وخيط الصّوف لأبدأ :

وتعجّبتُ جدًا لأنّني استطعتُ تنفيذ الغرَز من أوّل محاولة، ولشدّة تعجّبي كنتُ أتلف الغرزة ثمّ أعيد المحاولة، من المستحيل أن أنجح في ذلك بسرعة هذا سخف ! لا بدّ أنّني ارتكبتُ خطأً ما، وشاهدتني أمّي فصُدمت هي الأخرى : والله يا بنت يجي منّك ! أصبحتُ سعيدةً جدًا جدًا، أمامي إنجازٌ بدائيّ أزرق، ألمسه وأحرّك أصابعي لإتمامه، وأنا .. أنا استطعتُ عمل شيء لم أكن أتخيّل للحظة أنّي سأنجح فيه !

أصابني إدمان الصّوف ! كنتُ أحمله في حقيبتي وأنشغل به في السيارة، وكنتُ أحمله وأنا أشاهد فيلمًا أو أستمع إلى حكايات أمّي الّتي ضاقت ذرعًا بي وبانشغالي بهذه الهواية الجديدة عن الواجبات المنزليّة، كنتُ أصنع أشياء جميلة ثمّ أتلفها ببرود لأنّها غير مثاليّة .. لا زالت لديّ تلك الصّفة الحمقاء، أحذف شفرة برمجيّة كاملة من ٣٠٠ سطر فقط لأنّني شعرتُ بأنّها غير جيّدة، وأتلف غلاف جوّال صوفيّ لأنّه لم يكن متقنًا بما فيه الكفاية،  أزعم بأنّني أفعل ذلك لأنّني أستمتع بما أقوم به !

أتذكّر بأنّني كنتُ أتحدّث مع نجلاء عن السنّارات، أخبرتني بأنّ المقاسات تعتمد على نوع الصّوف، وبأنّ المقاسات الصّغيرة هي لخيوط الحرير الّتي نصنع منها أشياء جميلة جدًا لكنّها صعبة التّعامل، فتجاهلتُ أمرها تمامًا إلى حين أن أتقن التّعامل مع الصّوف التقليديّ .

ثمّ حدث أن ذهبتُ إلى المكتبة في رمضان مع أشقّائي الصّغار وجمعنا كالمجانين بكرات صوف بأنواع مختلفة وإكسسوارات لتزيين الأعمال اليدوية وأشياء كثيرة، وعدتُ إلى البيت فوضعتها في الدولاب ونسيتُ أمر الكروشيه تمامًا، بدا الأمر وكأنّي كنتُ أريد إثبات أنّ باستطاعتي تعلّمها لا أكثر !

ومنذ شهرين تقريبًا اشتقتُ إلى العمل اليدوي و “عوار الأصابع” فأخرجتُ الصّندوق وبدأتُ بتعلّم صناعة قبّعة صوفيّة، واخترتُ رأس دميتي وخيطًا بنفسجيًا لامعًا أعجبني .

فيما بعد عرفتُ من نجلاء بأنّ هذا الخيط الّذي استخدمته هو الخيط الحريريّ الّذي أخبرتني سابقًا عن صعوبة التّعامل معه، وفكّرت في أنّني لو عرفتُ ذلك قبل عملي عليه لتوهّمتُ بأنّه من المستحيل أن أنجز شيئًا باستخدامه !

أخيرًا، أنا كسلانة ! وملولة وبطيئة .. كان بإمكاني إنجاز الكثير من الأشياء خلال الفترة الماضية لولا استسلامي للحزن والخمول، لكنّني أؤكد بأنّ العمل على الأشغال اليدويّة يمنح النّفس سعادة غريبة، أعتقد بأنّ اليدين خُلقتا لأشياء أكبر من أن تفتح باب المصعد و”تطقطق” على الكيبورد ..

وأنّ حياة بدون إنجاز نلمسه ونشمّه ونحمله هي حياة شقيّة فعلاً !

13 رأي حول “أنا والكروشيه ..

  1. شي جميل جدا اني نبدأ هواية من الصفر رائعة ثقتك بنفسك واثباتك لها بانك تستطيعي حتى لو كان يخالجها ذلك الشعور انك لاتستطيعي نحنا هكذا المبرمجين نصلح لكل زمان ومكان 😉
    لكن اختلف معك في نقطة انا مانصنعه ليس شي ملموس بل هو كذلك
    # اعتراف
    مازلت اعتقد اني لا انفع في امور الخياطة
    لكن اعتقد اني سوف ابدأ باكتشاف كوهبتي قريب وسوف انافسك 😛

  2. جميل أن تكون لنا هوايات أيا كانت، وكونها محسوسة من غيره هو مجرد توصيف لا أكثر.

    هناك الكثير من الإنجازات الرائعة في حياتنا غير محسوسة لكن معانيها وآثارها أعظم بكثير.. فحنانيك!

    دمت بسعادة.

  3. جميلٌ هو التعامل مع الأشياء المحسوسة بدل النظريات و المُجردات، ربما اجربه مثلك
    دمتِ

  4. مساء الخير ..

    ممكن أعرف أخت إحسان ليه تحجبي اسمي في تويتر ؟ هل لأني سويت لك فولو ثم أنفولو فصار اسمي في البلوك لست ؟

  5. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته “ثلاثون”

    أنا مبرمج ومصمم لكن ينقصني الكثير في التصميم, مدونتك هذه مدونة مجانية لكنها تأتي بفوائد علمية جميلة, أنا مبرمج, وأوافق على أن أبرمج لكي قالبا بالمجان, هذا كأقل تقدير للفن المهدر دون فائدة, أنتي تحسبين نفسك دون أي فائدة, لكن لو أنك نشيطة في عملك ولديك مدونة برابط شخصي لكنتي مبدعة ورأى الناس أعمالك, زوري مدونتي http://www.story-wd.com/blog ومن قائمة اتصل بنا أرسلي لي رسالة واذا كان لديك تصميم أو فكرة بسيطة لموقعك أرسليها لي, وسأبدا البرمجة لك, لكن ليكن في علمك بأنه من اللازم أن تدفعي مقابلا لتشتري موقعا واستضافة وهذه بسيطة جدا, ولكن القالب سأبرمجه لك بالمجان.

    بالتوفيق لكِ

  6. أهلاً أخي ماجد، أشكر لك لطفك، أنا أيضًا مبرمجة ومصمّمة وأعمل على وردبريس 🙂 وإذا رغبتُ بقالب خاصّ فسوف أصمّمه، تقديري الشّديد لك

  7. تجرّبة جميلة جداً يا إحسان، واتفق معكِ فيما قُلّتيه … “أخيرًا، أنا كسلانة ! وملولة وبطيئة .. كان بإمكاني إنجاز الكثير من الأشياء خلال الفترة الماضية لولا استسلامي للحزن والخمول، لكنّني أؤكد بأنّ العمل على الأشغال اليدويّة يمنح النّفس سعادة غريبة، أعتقد بأنّ اليدين خُلقتا لأشياء أكبر من أن تفتح باب المصعد و”تطقطق” على الكيبورد ..”

    وفقكِ الله يا إحسان وأسعدكِ، أنتِ إنسانة رائعة و راقية أُكنّ لكِ الكثير من الإحترام والتقدير، حفظكِ الله لوالديكِ …

    وأعتقد بأنني سأقوم بتجرّبة الكروشية ^^

  8. والله يا احسآن كأنك تتحدثين عنّي فقد أحسستك أنا 🙂 و أحببتك دون أن أعرفك صراحة || ربما لأنّ لنا بشخصيآتنا نقاط تشابه كثيرة فأنا أدرس برمجة و أحب الكتب و أقرأ منها الكثير و كل حياتي على الافتراضي و العام الماضي فقط اردت تعلم الحياكة فقوبلت بالاستهزاء فزادني ذلك اصرارا لأنّي أعشق التحدي أما والدتي فأسعدها ذلك و أصبحت تقترح علي ما أحيكه ايشارب أو قفازات الخ الخ ثم اشترت لي أول كرتي صوف و اتجهت بعدها الى اليوتيوب ووجدت دروس رائعة و مفيدة تعلمت تقنيات عديدة أدهشت أختآي اللتآن كانا يقولآن لي ….أنت كسولة و ليس لديك الصبر على الحياكة الخ من مثبطات …..و بدأت في حياكة ايشارب لابنة أختي الصغيرة (لم تكن قد وُلدت حينها -كنا فقط نعلم أنها بنت-) ثم أنجزت الربع تقريبا و الباقي ينتظر الى الآن … لكن لا أخفيك أني عندما قرأت مقالك هذا و أنا أتجول كعادتي بين خيوط العنكبوت عاد ذلك الحماس مجددا و قررت الاستمرار… فنشوة اكمال شيئ بدأته و انجازة في أحسن صورة التي قد لا تُلمس باليدين لكنّها رآئعة بروعة عآلمنا هذا الذي أتاح الفرصة لابنة الجزائر لقرآءة ما جادت به أنامل ابنة جدّة 🙂

  9. (أقنعتني سمر بتجربة الكروشيه) عبارة منها .. غيرت عادة وأضافة تدوينة !
    [ أعتقد بأنّ اليدين خُلقتا لأشياء أكبر من أن تفتح باب المصعد و”تطقطق” على الكيبورد! ]
    “حياة بدون إنجاز نلمسه ونشمّه ونحمله هي حياة شقيّة فعلاً!” #رآئع_وحسب

  10. أنت تشبهينني.. أنا أيضاً مبرمجة وأهوى الكروشيه لدرجة أنني في إحدى تدويناتي السابقة قمت بدمجهما معاً 🙂
    استمتعت بقراءة تدويناتك

  11. شكرًا لك إحسان لمشاركتنا هذه التدوينة، ذكرتني بعد أن كنت أنسى أنني هاوية بل مدمنة للكروشيه وأصنع منه أوشحة في غاية الجمال، لولا أن أصابني الكروشيه بمتلازمة النفق الرسغي التي منعتني من الاستمرار على ممارسة هذه الهواية الجميلة جدًا. للأسف مازلت أبحث عن هواية أخرى بديلة ولم أجد حتى الآن ما يستهويني مثل الكروشيه.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.