عندما كنتُ طفلة، كانت جدّتي تضع بين سريري وسرير ابنة خالّتي – الّذين يشكلان معًا حرف L – كرتونًا متوسطًا جمعت فيه مجلاّت الأطفال الخاصّة بأمّي وخالاتي، وكنتُ كلّما أردتُ النّوم أمدّ يدي الصّغيرة إلى الخلف وألتقط مجلّة أبدأ بقراءتها حتّى يغلبني النّعاس فأرميها في الكرتون .
كان الكبار يشجّعوننا على القراءة، لم تنهرني جدّتي قطّ إلاّ حين كنتُ أصطحب معي عددًا من مجلّة ماجد إلى طاولة الطّعام البلاستيكيّة، هكذا تعلّمتُ القراءة قبل دخول المدرسة، وهكذا تعرّفتُ على حرب الخليج الثّانية وقصص فلسطين المحتلّة واسم إسحاق رابين . حين كبرتُ قليلاً أصبح للمجلاّت ركنًا خاصًا في مكتبة المنزل المطليّة باللون الأبيض، وكانت سميّة – ابنة خالتي – ترتّب المجلاّت مصنّفةً حسب ألوانها، لكنّني استمرّيتُ بجلبها معي إلى السّرير .
.
.
في المرحلة المتوسطة أعطتني ابنة عمّتي نسختين من سلسلة روايات جيبيّة للرعب، أخذتها إلى سريري وقرأتها، ظللتُ لأيّام طويلة أعاني من اضطّرابات في النّوم، حين اكتشفت أمّي أمر الرّوايات مزّقتها في سلّة المهملات، لا أدري إن كان تصرّف أمّي صحيحًا، لكنّها كانت خائفةً ممّا يحدث لي، لم أصدّق أبدًا بأنّ هذه الرّوايات فعلت بي ذلك .
وفي المرحلة المتوسطة كذلك أدمنت قراءة مجلّة المجلّة ومجلّة الشرق الأوسط، وكنتُ تعودتُ على جلبهما معي إلى السّرير، لم أكن أنتبه إلى أنّني لا أنام بشكل جيّد وأنّ الكوابيس تجثم عليّ حتّى قرأتُ تحقيقًا مصورًا عن أحداث سجن أبوغريب في مجلّة المجلّة ثمّ استسلمتُ للنوم، لكنّ شعورًا لزجًا بالرّغبة بالبكاء والتقيّء أيقظني، كنتُ أفهم بأنّ البكاء والتقيّء أسهل بكثير من إلحاح النّفس على اقترافهما دون جدوى، ووقع بصري على المجّلّة وفهمتُ سبب ما حدث لي، ثمّ اتّخذتُ قرارًا بعدم جلب المجلاّت السياسيّة إلى السّرير، والعودة إلى قراءة مجلاّت ديزني وماجد قبل النّوم، أدركتُ بعد هذا القرار بأنّني لم أكن أنام نومًا طبيعيًا قبل اتّخاذه !
.
.
في المرحلة الثانويّة، كانت إحدى روايات نجيب الكيلاني تُهدى إليّ باستمرار، ولم يكن لديّ اهتمامٌ بهذا النّوع من الأدب مطلقًا، لكنّني رضختُ لإلحاح القدر في نهاية الأمر، جلبتُ الرّواية معي إلى السّرير، وقبل أن أكمل منتصفها خبّأتُها تحت وسادتي وأجهشتُ بالبكاء، هذه الرّواية العاديّة جدًا غيّرت حياتي واخترقت جزءًا لم يجرؤ كتابٌ قبلها على اختراقه، بعد أن هدأت نوبة البكاء، وقفتُ في منتصف غرفتي ونظرتُ في المرآة كمن يتفقّد صغيره بعد مرور عاصفة، كان وجهي شاحبًا وعيناي جاحظتين، فيما بعد تساءلت عن حقيقة تأثّري الشّديد برواية سطحيّة كهذه، هل كان تأثري عائدًا إلى وقت اختياري لقراءتها فحسب ؟
.
.
وكبرتُ .. كثيرًا، ذات يومٍ مددتُ يدي اليمنى أسفل وسادتي فالتقطت مجلّة من مجلاّت ديزني، ثمّ مددتُ يدي اليسرى فالتقطت كتاب الظّاهرة القرآنيّة لمالك بن نبيّ، وابتسمتُ بسعادة، لم تكن روح الطّفلة داخلي قد تصالحت مع روح الباحثة حتّى تلك اللحظة، بل كنتُ أشعر بتوتّر شديد وتشوش في تعريف الأنا، هذا الموقف العابر جعل “الأشخاص” داخلي يتصالحون مع بعضهم إلى حدّ كبير، شعرتُ بأنّني راضيةٌ عن نفسي، وبأنّ تناقض اهتماماتها صحّيّ وجميل لا كما توهّمتُ لفترة طويلة، كانت مجلّة ميكي تطوّقني بحنان مع كتاب بن نبيّ، أتذكّر بأنّني بعد أيّامٍ من هذا، اخترتُ اسم Black & White للموقع الشخصيّ الّذي كان مطلوبًا منّا تنفيذه كواجبٍ لمادّة تطبيقات الويب في الجامعة، كان هذا الموقع هو تعبيري الحقيقيّ عن مدى اتّساق تناقضاتي مع بعضها .
.
.
قبل قليل أمسكتُ بجهاز الكندل وفتحتُ كتاب ” ضوء أزرق ” لحسين البرغوثي رحمه الله، بدأتُ بقراءة عدّة صفحاتٍ ثمّ تمتمت: كتاب قبل النّوم .
إنّنا نحتاج إلى انتقاء الكتب الّتي نأخذها إلى السّرير، لأنّ واقعنا يتأثّر بأحلامنا، ولأنّ أحلامنا تتأثّر بآخر الكلمات والصّور الّتي مرّت بنا، والأمر في ذلك يشبه الطّعام، حين تتناول وجبة دسمة قبل النّوم فإنّ معدتك تعاني من ذلك أثناء نومك، وكذلك حين تقرأ كتابًا دسمًا فإنّ عقلك يعاني ويضطرّب، وعدتُ إلى الكتاب وتساءلتُ عن السّبب الّذي يدفعني إلى وصف أيّ كتاب بـ: كتاب قبل النّوم، فقبل أسابيع كنتُ أقرأ كتاب ” المعتزلة والأحكام العقليّة ومبادئ القانون الطبيعيّ” قبل النّوم، لكنّي حين أستيقظ أجدني – فعليًا – لم أقرأ شيئًا .
إنّ أجمل ما أقرأه قبل النّوم هو مجلاّت ديزني، عالمٌ من الألوان والأفكار البريئة البعيدة عن صراعات الواقع وانقضاضه على عقولنا، وهو عالمٌ متّصل بالماضي الجميل، ويحرّك إبرة قلبي باتّجاه الجنوب، لأنّ الماضي موجودٌ دائمًا في الجنوب .
وكذلك الكتب الّتي لا تتعدّى روحي إلى عقلي، ولا تتجاوز حواسّي إلى منطقي، كتاب ” ضوء أزرق ” على سبيل المثال، وكتاب ” الأخلاق والسّير ” لابن حزم، وأدب الرّحلات والسّير الذاتيّة مثل بعض كتب الأستاذ نوّاف القديمي حفظه الله، وربّما يجد البعض متعة في قراءة الرّوايات قبل النّوم لكنّي لا أذكر بأنّ ذلك أعجبي .
.
.
عندما كنتُ طفلة، كنتُ مؤمنةً بأنّ أحلامي تتأثّر بما أقرأه قبل النّوم، في ليلةٍ هادئة أجّلتُ موعد نومي قدر استطاعتي حتّى امتلأت عيناي بنعاسٍ كافٍ، أخذتُ المصحف وقرأتُ سورة يوسف لأنّني أردتُ رؤيته في المنام ! لم أره بالتّأكيد، لكنّ ذلك الإيمان ما زال يلازمني … حتّى اليوم .
إليه، رسالة خاصّة :
سأنتظر اللحظة الّتي نقرأ فيها معًا، وأنا أستلقي على صدرك، أحبّك
عنوانٌ حين قرأته قبل أن أقرأ فحوى الموضوع , تذكرتُ بعض الأمهات من يشجعن أطفالهن للقراءة عند النوم
فالقراءة تجلب النوم لذا اقرأوا قبل أن تناموا
عند قرأتنا لأخر كتاب قبل أن تغلق أعيننا للنوم ترسخُ وتعلقُ بعقولنا مالتقطناه
كما تفضلت قراءة السير والكتب الخفيفة والقصص القصيرة عند النوم أفضل
جميلٌ ماكتبتي 🙂
أمنياتي لك بأحلامٍ أفضل مما تتمنين وواقعاً أجمل مما تحلمين
مودتي / نوف
مقاله رائعة ،
كانت أمي تلاحظ أنّي خلال نومي كنت أردد المادة التي حفظتها قبل النوم !
فعلا أنه يوجد ترابط عميق بين ما نقرأه قبل النوم و بين أحلامنا خلال النوم ،
وها أنا ذا أقرأ مدونتكِ ما قبل النوم ! ;p
نوف وسارة ..
أنا سعيدة لحضوركما، ليس لأنّه كان بهيًا بالنّسبة لي فحسب، وإنّما عرّفني على مدونتيكما، مودّتي
تدوينة راائعة !
أقرأ وفي كل جزئية أردد: نعم صحيح!
قصتك مشابهة لي بشكل كبير غير اني أحب قراءة الروايات خصوصا البوليسية 🙂
عانيت مثلك تماما من روايات الجيب المرعبة في المرحلة المتوسطة ومنعتني والدتي من قرائتها , لكني واصلت في قراءة المجلات
والروايات البوليسية .. ومثلك ايضا أصبحت أفرق بين الكتب المناسبة لما قبل النوم ومالا يناسب ..
شكرا لك 🙂
حاولت متابعتك في تويتر ووجدت نفسي محظورا
لا ادري فيما أغضبتك ولكني أخطئ واتذكر كتاباتك بخير
اشملينا بالعفو ومنشنينا به
ابراهيم
مقالة متناسقة جداً .. أحببتها وشعرت بها
القراءة لها لذتها قبل النوم .. يكفي أنها تخلي العقل من التفكير في أمور الحياة المزعجة أحيانا
وترخي الأعصاب .. شاكرة لك مشاركتك لنا بقصص طفولتك ..
أتمنى لك نوماً هنيئاً
قرأته قبيل ساعه نومي
انا الان في عام 2018
يالله كم هي سريعه الايام
مابين وقت تدوينك وقت قرائتي
مسيره الف عام ربما
لكن جميل ان تبقى الحروف مخلده
ونعود لها من حين لأخر
جم التحايا لكي