هل خلق الله الإنسان لكي يدرس مؤلّفات أرسطو وتوما الأكويني ويعرف اللغة اليونانيّة، وأن يخمد أحاسيسه ويتجنّب العالم؟ ألم يخلق الله الإنسان مع شهواته وكبريائه، وقلب من الدّم والظلام، ومع الحرّية في أن يأثم ويحبّ وييأس ؟
غولدموند
١٨سبتمبر ٢٠١٢ :
للتوّ أنهيت قراءة رواية نرسيس وغلدموند للوجوديّ الألمانيّ خالق المعنى هيرمان هيسه، حزينة لفراق غولدموند، لم يحدث وأن شعرتُ بالحزن لفراق بطل روائيّ مثلما أشعر به الآن، لقد كنتُ أبكي كلّما اقتربتُ من النّهاية، لم يكن غولدموند مجرّد شخصيّة بالنّسبة لي، إنّه الإنسان الخالص في أنقى صوره، لا تزال عليه آثار طينٍ قبضتها الملائكة لم تجفّ بعد، ولا يزال لروح الله حضورًا غضًّا في ذلك الطّين .
.
.
تعالج الرّواية الفكرة الدّينيّة، ولستُ أعني بها هنا الدّين المؤسساتي أو المؤدلج، إنّما الدّين في صورته البدائيّة، حاجة الإنسان الملحّة لتجاوز الجسد إلى فكرة وجوديّة تقضّ مضجعه وتقلقه، والإنسان قد يجد سكينة هذا القلق في العلوم اللاهوتيّة والفلسفة الدّينيّة ودور العبادة، وهو ما كان عليه الرّاهب العبقريّ نرسيس، لكنّه قد يرفض كلّ ذلك باحثًا عن سكينته في اللاسكينة، كما كان الأمر عند غولدموند، وحدث أن التقيا صدفةً في دير ماريابرون .
” لقد نسيتَ أمّك ! “، هكذا أيقظ المعلّم نرسيس روح غولدموند الفتى بعنف، وليستِ الأمّ هنا هي والدة غولدموند فقط والّتي كانت خطاياها وعبثها وجنونها سببٌ لإرسال أبيه له إلى الدّير، ولكنّها أيضًا رمزٌ إلى الحياة، إلى قيمة الإنسان عاريةً من كلّ وهم .
أنا أفهمك جيدًا. الآن لم نعد بحاجة إلى الجدال: لقد وعيتَ وبتّ ترى الفرق القائم بيننا، الفرق بين رجال يشبهون والدهم وأؤلئك الّذين تحدّد مصيرهم امرأة، إنّه الفرق بين الرّوح والعقل، وأيضًا الآن سرعان ما ستدرك أنّ حياتك في الدّير، وتوقك لأن تغدو راهبًا ليس غير خطأ، أداة في يد والدك استخدمها ليزيل عنك ذكرى والدتك، أو ربّما فقط وسيلة للانتقام منها، أم أنّك ما زلت تتوهّم أنّ قدرك هو أن تبقى هنا لتمضي حياتك كلّها ؟
نرسيس
هكذا ترك غولدموند الدير، وخرج للبحث عن نفسه، وعن الله، عاد إلى الأرض بصورة آدم، يكتشف نفسه لأوّل مرّة ثمّ يقف لساعات يتأمّل وردةٍ متّسقة، ويحدّث نفسه بإيمان فطريّ عظيم :
” أيّ مخلوق رائع ونبيل ومترع بالفرح هو ذلك الكائن البشري الّذي يمكنه أن يصنع زهرة مثلها؟ ولكن لا أحد يستطيع ذلك، لا بطل، ولا إمبراطور، ولا بابا، ولا قدّيس ! “
واللحظة الأولى الّتي تحرّر فيها غولدموند من سيطرة أبيه كانت اللحظة الّتي قبّلته فيها فتاة ريفيّة، لقد أدرك وقتها بأنّ نداء الإنسان داخله أقوى بكثير من نداء الرّاهب، وبدأ يبحث عن معنى الحياة في المرأة ! حيث للمرأة هنا سرّ حوّاء ويقظة القلب وخصوبة الأرض، خالص اللّذة وخالص الألم، وذلك الشّعور المعجز الّذي يحيطه هيرمان بقداسة – مهما بدا للكثيرين مبتذلاً – والمسمّى (الجنس)، والحديث عن المرأة في روايات هسه يحتاج إلى مقالٍ آخر، فهي موجودة في جميع رواياته وقصصه بصورةٍ قدسية مؤثّرة وعميقة .
ثمّ يواصل غولدموند طريقه متشرّدًا وسط الثّلوج حتّى يصل إلى كنيسة يزيّن مدخلها تمثال لمريم العذراء، فيدرك بأنّ ” ثمّة شيء فيه قد بُعث إلى الحياة، شيء شبه مجهول، لكنّه كثيرًا ما يُرى في الأحلام، شيء تاق إليه طوال حياته “، فتبدأ رحلة بحثه عن معنى الحياة في الفنون والفنّان هو ذلك الشّخص الّذي ” يأتي إلى العالم، يحبّ خلقه، ويعيد تشكيله من جديد”، بينما المفكّر ” يكافح للوصول إلى ربّه بإبعاد العالم من أمامه ” .
وكنتُ أثناء قراءتي للرواية أحدّث نفسي: لا بدّ أنّ علي عزّت بيجوفتش قد تأثّر كثيرًا بهيرمان هيسه حين كتب كتابه العظيم (الإسلام بين الشّرق والغرب)، ثمّ عرفتُ لاحقًا بأنّه تحدّث عنه أكثر من مرّة في كتابٍ آخر له (هروبي إلى الحرّية)، وأكثر ما جعلني أفكّر بذلك هو أنّ كليهما يرى في الفنّ فكرة دينيّة، رغبة في التحرّر من الجسد والتوق إلى بعد آخر مجهول موجود في أعمق نقطة في الإنسان .
يتعلّم غولدموند فنّ النّحت لدى النّحات صاحب تمثال مريم العذراء، يقضي في منزله عامين كاملين لنحت تمثال للقدّيس يوحنّا (يحيى عليه السّلام) في صورة صديقه ومعلّمه نرسيس، وبذات القدسية الّتي عامل فيها المرأة، عامل الفنّ أيضًا .
وسرعان ما يدرك غولدموند بأنّ انغماسه في الحياة الفنّية يعني تحويل الفنّ من ممارسة روحيّة إلى حرفة للتكسّب لا معنى لها، كلّا، ليس مقدّرًا له الانضمام إلى نقابة النحّاتين وصقل رؤوس الملائكة مقابل ما تدفعه الكنائس، إنّه يبحث عن أمرٍ مختلف، لذلك يرفض عرض معلّمه له للزواج من ابنته والبقاء معه وينطلق في طريقه متشردًا من جديد .
لا أستطيع أن أقضي أيّامي في العمل اليدوي، ألمّع الملائكة، أقضّ ستائر الصّلبان، أعيش كعامل عادي في هذه الورشة، أكسب المال وأزدهر مثل بقيّة العمّال، لا .. لن أفعل ! أريد أن أعيش، أن أعود إلى التطوّف في الطرقات، وأريد أن أتذوّق ألمه حتّى الثمالة، يجب أن أعاني الجوع والعطش، وأن أنسى، وأحرّر عقلي من كلّ ما تعلّمته هنا، وذات يوم سوف أصنع تمثالاً يحرق مشاعر النّاس من الأعماق، ويكون معادلاً في جماله لتمثالك لأمّ الربّ المقدّسة، أمّا أن أكون مثلك، وأن أحيى نمط حياتك، فلن أفعل ذلك .
ثمّ يستمرّ غولدموند في رحلته باحثًا عن المعنى والوجود، عن السّكينة والإنسان، عن غولدموند نفسه، يبحث عن كلّ ذلك في الموت، في خطيئة القتل، في ارتعاشة فكرة العدم، في خادمة بريئة يقتلها الوباء، ويهودٍ يُحرَقون حتّى الموت لأنّ المسيحيين اعتقدوا بأنّهم اللعنة الّتي جلبت ذلك الوباء !
والمؤمنون المتطبّعون قد يرون في رحلة غولدموند عبثًا ولهوًا وسقوطًا في الخطيئة، لكنّ الطّريق لا يمكن إلاّ أن يكون طريقًا، وغلدموند هو صورة لهيرمان هسه الّذي تربّى في عائلة بروتستانية متديّنة لكنّه تمرّد مبكرًا على المدرسة الكنائسية، ثمّ تمرّد على المدرسة التقليديّة العامّة وغادرها وعاش حياةً باحثة عن النّفس حتّى مات .
من هو کاتب هذه المقالة؟
أنا ^^”
مقال أقل ما يقال عنه أنه مذهل….أحسنت فعلا وحفزتني لقراءة الكتاب….ألف مليون شكر
أشكرك جزيل الشكر على قدومك هنا بعد ٦ سنوات من كتابة النصّ والامتنان علي بإعجابك.