منذ وقتٍ طويل مضى، كانت لديّ حساسيّة مفرطة تجاه لفظ “أنثى” ومشتقاته، كثيرًا ما أشعر في حضوره بأنّني مخلوقٌ مختلفٌ عن الإنسان، كُتب عليه بأن يُعامل بطريقة مختلفة وحذرة، فلدينا هيئة لحقوق الإنسان وأخرى لحقوق المرأة، والممارسات الّتي تُعتبر طبيعيّة في حياة أيّ إنسان، تتحوّل إلى جدليات وصراعات فكريّة حين ترتبط بالمرأة، كما تتعامل ثقافتنا مع مشي المرأة وحيدة في الشارع كأتفه مثال .
لذلك عادة كنتُ أنفر من أيّ حدث أو كتاب أو مقالة أو موقع الكترونيّ يتحدّث عن الأنثى، أريد أن أهرب من حقيقة أنّ العالم يعاملني بطريقة مختلفة، إنّني أكره المفاهيم النسويّة سواء تلك الموجودة في موروثنا الثقافي، أو الموجودة في الثقافة الحداثيّة، أشعر بأنّي لا أنتمي إلى أيّ منهما .
منذ عام ٢٠١٠ حدثين مهمّين أثّرا في تعاملي مع هذا الأمر كثيرًا، الأوّل هو قراءتي للدكتور عبد الوهّاب المسيري رحمه الله، أحببتُ تعامله المتّزن مع قضيّة المرأة، شعرتُ بأنّي أنتمي إلى هذه المفاهيم، لستُ إنسانًا ناقصًا لكنّي أملك جوانب مختلفة عن الرّجل ويجب ألاّ أقمعها تحت أيّ ضغط شرقيّ أو غربيّ، كانت لديّ تلك الحساسيّة الشّديدة مع مفهوم “قضيّة المرأة”، لماذا يجب أن أكون قضيّة؟ ثمّ فهمتُ بأنّه أمرٌ مفروض على العالم، ليس لأنّ المرأة أقلّ من الرّجل، بل لأنّها أكثر منه، وأعني .. أكثر منه في غزارة المعنى الوجوديّ، لذلك طالما كانت المرأة ملهمة الوجوديين من شعراء وفنانين وأدباء .
الحدث الآخر الّذي أثّر بي، هو انتمائي لديوانيّة نون الثقافيّة، في بداية الأمر امتعضتُ في داخلي لأنّ “نون” تجمع بين نون النّسوة – الّذي كنتُ أكرهه جدًا – وبين نون “نون والقلم وما يسطرون”، لكنّ اقترابي من صديقاتي في الديوانيّة غيّرني جدًا، لسنَ مجموعة من الفتيات التافهات اللواتي يختصرن أنفسهنّ في ما تفرضه عليهنّ رغبات الرّجل المقدّمة في الإعلام، ولسن أيضًا ذلك النّوع الّذي كنتُ أقرب إليه، كنّ نموذجًا مختلفًا من الفتيات الواعيات، النّاجحات في حياتهنّ العمليّة والشّخصيّة، المتصالحات مع أنوثتهنّ إلى حدّ بعيد جدًا .
ومن بينهنّ بالتّحديد، تأثّرت في هذا الجانب بأ.مها نورإلهي، لطالما نظرتُ إليها باحترام شديد، ومهما اختلفتُ معها في كثير من الأحيان، لم أفقد هذا الاحترام ولو للحظة واحدة .
كانت أ.مها في عينيّ – وما زالت – امرأة جميلة تكبرني بـ١٥ عامًا، مستقلّة الفكر، طليقة الرّوح، ناجحة في وظيفتها كأستاذة في كلّية دار الحكمة، شغوفة بالأدب والفنّ والجمال، أخبرتني مرارًا بأنّني أشبهها، وبأنّها مرّت بأكثر الصّراعات والمراحل الفكريّة الّتي مررتُ بها، لذلك تطلّعتُ إليها كثيرًا وأعجُبت بتصالحها مع أنوثتها، عندما تتحدّث عن المطبخ تمنحه قداسة تشبع جزءًا كبيرًا منّي وترضيني، لديّ اعتقادي العميق بأنّ الطّبخ ومسح الغبار وتنظيف الأرضيات يحمل قيمة عظيمة مهما كرهتُ كلّ تلك الأعمال الّتي تؤخّرني عن بقيّة اهتماماتي .
خلال الأيّام الماضية مررتُ بمعاناة شديدة يختصرها بيت روضة الحاج الّذي كتبتُه في كلّ مكان، على تقويمي وبين أوراق دراستي وفي باث وتويتر: وكرهتُ أنّي جئتُ من جنس النّساء … وجعي على وجع النّساء .
والحقّ أنّي لم أكره كوني فتاة بحدّ ذاته، على العكس، لطالما أحببتُ الحياة الّتي تسكنني، لطالما شعرتُ بأنّني أنتمي للجزء الأجمل والأكثر تعقيدًا في العالم، ولطالما أثارت اهتمامي وإعجابي أرواح صديقاتي الممتلئة بالحنان والإنسانية والمعاناة والجمال، لكنّي كنتُ أشعر بالضغط الشديد على هذه الحياة، تحت هذه الثقافة الّتي أُطالب فيها بألاّ أكون أنا، لأنّي كائنٌ يهدّد الآخرين من حيث هو مهدّد منهم أيضًا .
كنتُ حزينة جدًا، تلك الرّغبة الغامضة بالموت عندما تكون الحياة الموجودة داخلك أضعاف ما يُسمح لك به .
لديّ قناعة شديدة بأنّ أوامر الله عزّ وجلّ تتّفق مع طبيعة الإنسان، تلك المحرّمات الّتي يضعها الآخرون حولنا باسم الله بينما هي تحوّلنا إلى أشباه بشر، إلى مسوخ مشوّهة بلا حياة، لا يمكن أن تكون من عند الله، لا يمكن أن يحرمنا الله من الحياة الّتي خلقها داخلنا، إنّ تعريف الدّين البسيط في القرآن الكريم هو : فطرة الله الّتي فطر النّاس عليها، فكيف يأمرنا الله بمخالفة الفطرة في كلّ حركة من حركاتنا ؟
بينما كنتُ تحت هذه المعاناة، أخبرتني صديقتي فوز بأنّ أ.مها ستقيم ورشة عمل بسيطة تحت عنوان “حرّري أنوثتك”، لا زال لديّ شيء من التحفّظ تجاه لفظ “أنثى”، لكنّي ذهبتُ لأنّي أثق بديوانية نون، وأثق بأ.مها، وأثق بأنّني سوف أخرج من المقهى أفضل حالاً بكثير .
لم أتوقع مثلاً أن تتحفنا أ.مها بالديباجات المتكررة، حول وضع المرأة في العالم العربيّ وحركات انتفاضتها وتحريرها وكلّ هذا الحديث الّذي أكرهه جدًا، ولم أتوقع أيضًا أن تكرر علينا التحذير من حركات تغريب وإفساد المرأة والتباكي على ماضي المرأة السّعودية .. إلخ إلخ، كنتُ أتوقع شيئًا مختلفًا، من امرأة مختلفة لا تتصنّع أو تتعمّد هذا الاختلاف، لا تبحث عن الأفكار الأكثر شطحًا بل عن التوازن الحقيقيّ الّذي يجعلنا أكثر سعادة .
حدثتنا أبلة مها عن الطاقة الأنثوية، عن التدمير الّذي يلحقه إقصاؤها سواء كان هذا الإقصاء تحت الضّغط الّذي يضع الرّجولة معيارًا لمثالية الإنسان، فتتحوّل المرأة إلى شبيه رجل لأنها تريد أن تصبح شخصًا عظيمًا، أو تحت الضّغط الّذي يصوّر كلّ إطلاق للطاقة الأنثويّة تهديدًا للأمان الأخلاقيّ في المجتمع .
حدّثتنا عن رينيه ودي، الفتاة البريطانية الّتي شعرت بأنّ الثقافة الغربيّة تقمع أنوثتها تحت الضغوط المادّية والنّفعية والعمليّة، وافقت رينيه على الارتباط برجل لا تحبّه فقط كي لا تستمرّ حياتها دون وجود رجل معها، وبينما كانت تمشي معه في الشّارع مرّة كادت سيارة أن تصدمهما فما كان منه إلاّ أن اختبئ خلفها مذعورًا محولاً فتاته إلى درع بشري !
بعد تلك الحادثة أسست رينيه موقع the feminine women، تنادي فيه الفتيات بأن يتوقفوا عن قمع حقيقتهنّ تحت الضغوط الاجتماعيّة أيًا كانت، أن يتصالحن مع أنفسهنّ وأنّ هذه هي الطريقة الوحيدة الّتي ستجعلهنّ جذّابات ومعشوقات !
لستِ مطالبة بأن تكوني نسخة معياريّة لنجمات هوليود الّتي تصدّرهنّ الأذواق الذكورية والتجارية، لستِ مطالبة بأن تسرفي في التغنّج والميوعة، أو أن تتحولي إلى جسدٍ مستهلك لا روح له، ولستِ مطالبة كذلك بإنكار ذلك الجسد أو تحقيره أو النظر إليه كخطيئة .. لا، أحبّي هذا الجسد لأنّ الله لم يخلقه ناقصًا أو قذرًا، لقد خلقه جميلاً ضاجًا بالحياة منسجمًا مع الرّوح .
حرّري أنوثتك، استمعي إلى نفسك، أحبّي كونكِ فتاة مهما وجدتِ ذلك قاسيًا في بيئتك، إنّ قوتك تكمن في كونك مخلوق عاطفي، تمامًا كما عبّرت إيفي إنسلر، لديكِ القدرة على فهم المعاناة البشرية والإحساس بها، القدرة على تلمّس الجمال وخلقه، القدرة على تفجير ملايين العواطف والانفعالات الهادرة .
لا أزعم أنّني أصبحتُ بخير تمامًا بعد كلّ هذا، ما زلت أتطلع إلى اليوم الّذي أستطيع فيه أن أمارس نفسي بعد أن قضيتُ ربع قرن في التعرّف عليها، ما زلتُ أريد الكثير وأتطلّع إلى الكثير، ما زالت الحياة داخلي عنيفة ومتفجرة ومرهقة، لكنني فقط لن أكره كوني فتاة، لن ألعن هذا القدر بل سأحبه أكثر وأكثر .
سأحبه لأنني لو كنتُ رجلاً لما استطعتُ حتّى كتابة مقال انفعالي كهذا، لما بكيتُ وأنا أشاهد مقطعًا كرتونيًا عابرًا يتحدّث فيه بطل خيالي إلى أمه، لما ارتبطتُ بقرطاس بسكويت قديم لا لشيء إلاّ لأنّ صديقة عزيزة جلبته لي، لما احتضنتُ بصدق وانفعال كوب قهوة جلبته لي صديقة من اليابان لأنها تعرف بأنّني أحب الشخصيات الكرتونية المرسومة عليه، ولما كانت لديّ كلّ تلك الرّغبة بالحياة !
http://pure-souls.net/%D8%B1%D8%AC%D9%84-%D9%88-%D8%A7%D9%85%D8%B1%D8%A3%D8%A9/