شاهدت يوم أمس الحلقة الأخيرة من المسلسل المصريّ الملحميّ بنت اسمها ذات المأخوذ من رواية الأديب اليساريّ المصريّ إبراهيم نصر الله.
وكنتُ في رمضان ١٤٣٤ قد شاهدتُ أكثر من مرّة إعلان المسلسل ولكنّي لم أفكّر مطلقًا بمشاهدته بما أنّه مسلسل عربيّ، وكانت ردّة فعلي الوحيدة هي الإنزعاج من استمرارية ظهور الإعلان في موقع يوتيوب، لكنّي الان أدرك لماذا حرص منتجوا المسلسل على الحملة الإعلانيّة، فالجهد المبذول في المسلسل واضح جدًا ولو كنتُ أحد الأشخاص الّذين ساهموا في خروجه إلى النّور لحرصتُ على أن يشاهده النّاس بكلّ ما لديّ.
المسلسل يحكي قصّة امرأة مصريّة منذ مولدها في عام ١٩٥٢ – عام ثورة الضبّاط ضدّ النّظام الملكيّ – حتّى عام ٢٠١١ – عام ثورة الرّبيع العربيّ -، سُمّيت ذات تيمّنًا بالثّورة – ذات الهمّة -، لكنّ ذات على عكس الثّورات تمامًا، فتاة عاديّة ورتيبة قد تقابلها في كلّ مكان دون أن تلتفت إليها أو تفكّر في أن تكتب حولها حكاية، وهذا أكثر ما أعجبني في المسلسل، الأشخاص العاديّون، لماذا يحرص كتّاب ومخرجي الأعمال المرئيّة على أن يقدّموا فكرة خارقة عن العادة؟
بالنّسبة للمخرج، أظنّ بأنّ الرّتابة أصعب في الإخراج من الأفكار الخارقة، فهو مطالب بالحفاظ على انتباه المشاهد خلال أحداث .. عاديّة، بدون مشاهد تحبس أنفاسه أو ترفع الأدرينالين في جسده أو تشوّقه لعواقب فجائيّة، فيلم Boyhood على سبيل المثال وصفه الكثيرون بالمملّ لأنّهم انتظروا “الحبكة الخارجة عن العادة” لكنّهم استمرّوا بمشاهدة قصّة عاديّة لطفل عاديّ كبر ليصبح طالبًا جامعيًا عاديًا! لقد أحببت فيلم Boyhood بجنون وشاهدته أكثر من مرّة وأحبّه غيري من الّذين يتشوّقون للقصص العاديّة، كم مرّة يتاح لنا مشاهدة قصّة عاديّة عبر الوسائل المرئيّة؟
لكنّ مسلسل ذات يختلف عن Boyhood في أمرين، التّسارع الأعلى للأحداث، وارتباطها بالأحداث السياسيّة وهذه ورقة رابحة للعاملين في الفيلم، فالمشاهد ينتظر بانفعال كيف ستؤثّر الأحداث السياسيّة القادمة والّتي يعرفها مسبقًا بحياة ذات وأسرتها وجيرانها، أتخيّل أنّ غياب البعد السياسيّ في المسلسل سيؤثّر فيه تأثيرًا سلبيًا جدًا.
نعود إلى ذات، وُلدت ذات في أسرة عاديّة لكنّنا عند التّفكير في أسرتها ندرك بأنّ ذات هي الأكثر “عاديّة” بينهم، كبرت لتدرس تخصصًا عاديًا، لتغرق في أحلام عاديّة، لتمشي بطريقة عاديّة، ثمّ لتتزوّج بطريقة تقليديّة عاديّة، تزوّجت ذات لأنّها لا تريد أن تعنّس في بيت أهلها وتعيش وحيدة، من رجل عاديّ، ثرثار وبيّاع كلام يحاول أن يظهر بمظهر طموح، يطعّم حديثه ببعض المفردات الانجليزيّة ليبدو مثقفًا عصريًا، أكثر نموذج مألوف من الرّجال في البيوت العربيّة، سي السيّد الّذي يعتبر وضع الحذاء في قدميّ ابنته الصّغيرة أمرًا خارجًا عن مهامه.
لكنّ عبدالمجيد ليس شخصًا سيئًا، وهو ليس طيّبًا أيضًا وهذا ما يميّز الشّخصيات العاديّة، بشريّتها، ينمو الحبّ بطيئًا بين ذات وعبدالمجيد، بطيئًا جدًا عبر عشرات السّنوات، لا يدرك المشاهد كم هي قويّة علاقة هذين الزّوجين إلاّ حين بلوغ ذات الأربعين تقريبًا، حبّ عاديّ غير جذّاب نادرًا ما تراه بين بطلين دراميين، حبّ غير دراميّ أصلاً.
هناك شخصيّات غير عاديّة في المسلسل مثل الثّائرين صفيّة وعزيز، لكنّهما شخصيتين ثانويّتين، يمكن أن نقول بأنّ هذه هي حكاية مصر فعلاً، فمن بين مئة مليون مصريّ يمكننا أن نجد الملايين من ذات وعبدالمجيد والقليل القليل من صفيّة وعزيز.
لكنّ ذات المرأة العادية ال”ماشية عالحيط” تظهر في آخر مشهد في المسلسل وسط مظاهرة ثورة ٢٠١١ تتمتم مع الجموع بصوت خافت: الشّعب يريد إسقاط النّظام، فذات الّتي لم تكن تحلم بأكثر من حمّام جيّد لا يحرجها أمام صديقتها منال أصبحت ضمن جموع الشعب المصرّي الّذي يطالب الرّئيس بالنّزول من على كرسيّ الحكم.
وكأنّ القصّة هي قصّة الفرد المصريّ العادي خلال منتصف القرن الحاليّ الّذي أرغمته الأوضاع على الخروج رغم ميله الطبيعي للاستقرار وكراهيته للمشاكل والاضطرابات السياسيّة.
نقاط سريعة عن المسلسل:
١. التمثيل احترافي بشكل لا يمكن وصفه، كلّ فرد في المسلسل نجح في تقمّص الشّخصيّة خصوصًا الشّخصيات الّتي مرّت على تعاقب زمنيّ طويل.
٢. الجهد المبذول في إعداد الوثائقيات التّاريخيّة واضح وجليّ.
٣. الملابس، الموضة، الموسيقى، الحياة العامّة، المفردات المستخدمة، اتّخذت بعدًا تاريخيًا مدهشًا.
بين المسلسل والرّواية:
اطّلعتُ على الرواية المكتوبة بعد مشاهدتي للمسلسل وفوجئت باختلاف بين العملين، التّسلسل الزّمني في الرّواية غير منتظم على عكس المسلسل، والأحداث التّاريخية مسرودة بشكل صحفيّ في فقرات منفصلة إلى حدّ ما عن الأحداث .. لم أحبّ الرّواية، نقطة مهمّة هي أنّ الرّواية نُشرت لأوّل مرّة في عام ١٩٩٢ أيّ أنّ كاتب سيناريو المسلسل اضطّر لعمل الكثير من التغييرات وإضافة أحداث عديدة كي ينهي أحداثه عند ثورة عام ٢٠١١.
تستحقين أكبر شكرا 🌹