كان لأرملة في الأربعين من عمرها تجارةٌ واسعة ومالٌ وجاهُ في قومها، وكانت تختار من الرّجال أحسنهم ليسيروا في تجارتها، لمّا سمعت عن أمانة أحد شباب مدينتها وحسن خلقه اختارته ليعمل ضمن قافلتها ووعدته بأن تعطيه أكثر ممّا يعطيه سائر التجّار، كان ذلك الشّاب في الخامسة والعشرين من عمره، يتيمًا فقيرًا، شجّعه عمّه على العمل لديها والخروج ضمن قافلتها وروُي أنّه قال له: “هذا رزق قد بعثه الله إليك”.

خرج ذلك الشّاب في تجارتها، ولمّا عاد أُعجبت به المرأة ورغبت في الزّواج منه، قيل أنّها بعثت صديقتها إليه وقيل أنّها عرضت عليه الأمر مباشرة، رحّب الشّاب بالفكرة وتمّ زواجهما، زواجه الأوّل، وزواجها الثّالث.

كان ذلك الشّابّ يحبّ الاختلاء بنفسه في غار بعيد عن المدينة، وكانت زوجته تعدّ له كلّ ما يلزمه من طعام ومؤونة قبل رحيله وتحرص على راحته، رُزقا بالعديد من الأبناء فكانت الزّوجة تقسّم وقتها بين رعايتهم وبين عملها التّجاريّ.

مرّا بالكثير في حياتهما الزّوجيّة لحدّ لا يتّسع المكان لذكره، كان لذلك الشّاب رسالة عظيمة ليؤدّيها وكانت زوجته هي أوّل من آمن برسالته وشجّعه ودعمه، أحبّا بعضهما كأشدّ ما يكون الحبّ حتّى أنّها قامت بتربية ابن عمّه ضمن أبنائها، وعلى الرّغم من أنّ تعدّد الزوجات والجواري كان شائعًا تمامًا في عصرهما إلاّ أنّه لم يتزوّج غيرها في حياتها.

في عام ٦٢٠ للميلاد، وتحت حصار اقتصاديّ وظروف سياسيّة سيّئة توفّيت الزّوجة المحبّة عن عمر يناهز الرّابعة والستّين بعد أن عاشت في رفقة زوجها ٢٥ عامًا تقريبًا، سُمّي العام الّذي توفّيت فيه بعام الحزن، كان على الزّوج المكلوم أن يكمل طريقًا بدأه للتوّ دونها، لكنّ قصّة حبّهما امتدّت حتّى بعد وفاتها وزواجه من غيرها، فقد كان يبعث الهدايا إلى صديقاتها، وكانت المرأة الوحيدة الّتي أثارت غيرة أحبّ نسائه إليه من بعدها.

.

هل تبدو هذه القصّة مألوفة؟ من المفترض ألاّ تكون مألوفة، من الغريب جدًا أنّها مألوفة، فنحن نعيش في عصر ومكان، حيث زواج أرملة أربعينية من شابّ عشرينيّ ممكن أن يثير تعليقات من نوع: الحبّ أعمى! ، ايش يبغى بحرمة بهذي السنّ بالله؟ ، مو كان لو أخد بكر في عمره أحسن له؟ ، يمكن تزوّجها عشانه يتيم الأمّ ، لتكون سحرته؟.

 أمّا لو عرف النّاس عن الفارق المادّي بينهما: آه عشان كذا ..، الفلوس ياخي الفلوس ، تزوّجها عشان تجارتها ترا تحسّب حبًا فيها؟.

أمّا لو عرفوا عن بقائه في الغار في الوقت الّذي تشتغل فيه في التّجارة : بالله ايش يحسّ فيه وحرمة تصرف عليه؟ ، مخدوعة بالحبّ ذي تربّي عياله وتصرف عليه وهو معتزل النّاس.

لذلك أقول من الغريب جدًا أنّها قصّة مألوفة، من الغريب أنّنا ندرسها في المدارس وأنّنا نحفظها ونحفظ تفاصيلها، والأكثر غرابة وإثارة للدهشة أنّنا نؤمن  بهذا الرّجل كأشدّ ما يكون الإيمان، حيث هو نبيّ أمّتنا الّذي لا نحبّه حبًا جمًّا فحسب – أو ندّعي ذلك -، ولكنّه الّذي نؤمن بأنّ حبّه يكون في اتّباعه!

في عصر مثل عصرنا، حيث يؤمن بالنّاس بأنّهم صاروا أكثر انفتاحًا، لدينا قائمة لا تنتهي بالشّروط المضمنة والصّريحة الواجب توفّرها في كلا الطّرفين الرّاغبين بالارتباط: أن تكون المرأة أصغر عمرًا من الرّجل، أن يتكفّل الرّجل بكافّة نفقات المرأة، أن يتزوّج الرّجل في أوّل زواج له على الأقلّ من بكر صغيرة، أن يختار الرّجل من يتزوّج فمن المهين أن تقوم المرأة بهذا الدّور، أوه لحظة! إنّ الأمّهات في مجتمعنا وحدهنّ يحملن حقّ الاختيار فحتّى الرّجل لا حقّ له بذلك!

لا مشكلة عندي في من يضع شروطه الخاصّة مهما تعقّدت، لكن الأمر هو أنّ هذه الشّروط فُرضت كقانون اجتماعيّ، وبالنّسبة لغالبية النّاس فكلّ من يخالف هذا القانون مخدوع أو أحمق أو شاذّ أو لديه مصلحة شخصيّة أو غريب يحتاج إلى تحليلات نفسيّة أو حتّى غير أخلاقيّ، ما هو غير الأخلاقيّ في الأمر؟ لستُ أدري!

حاول أن تتحرّر من ثقل الشّروط الاجتماعيّة الّتي تضيّق مساحة اختيارك لشريك حياتك، ضع شروطك الخاصّة، اختبر كلّ قانون اجتماعيّ وضعه الآخرين عنك، قلّبه وفكّر به فلعلّك تنتبه إلى سخفه، ولعلّك تضحك أنّه كان بديهيًا بالنّسبة لك، الأمر ليس بهذه البساطة على المستوى العمليّ .. نعم أنا أعرف، لكن على المستوى النّفسي على الأقلّ، كن حرًّا على المستوى النّفسي على الأقلّ!

.

.

” …. فأخذت بيده فضمتها إلى صدرها ونحرها ثم قالت: بأبي وأمي، والله ما أفعل هذا لشيء، ولكني أرجو أن تكون أنت النبي الذي ستٌبعث، فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي وادع الإله الذي يبعثك لي، فقال لها: والله لئن كنت أنا هو، قد اصطنعتِ عندي ما لا أضيعه أبدًا، وإن يكن غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدًا “

4 رأي حول “قصّة حبّ غير مألوفة

  1. تسلسل المقال موفق ومبدع
    هي قصة مألوفة لاجديد فيها
    لكن كل سطر يجذبني لقراءة ما بعدها
    مناقشة الموضوع في الختام فكرة ممتازة.
    لك كل الشكر والتقدير.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.