27573031

اللوحة لـ Leon Ferrari

 

أبالغ إذا قلت أنّه يكفيني من الحياة أنّي أكتب، ولكنّي أصدق أحيانًا حين أقول “يكفيني من يومي أنّي كتبتُ شيئًا”، الكتابة رفّ إضافيّ، ذاكرة زائدة حين يمتلئ الذّهن بالأفكار وننسى كيف ابتدأ كلّ هذا، الكتابة هي جوابٌ لطيف لسؤال “كيف نفكّر؟”.

عن ماذا كنت أبحث في الكتابة أوّل مرّة؟ أن أشير بيديّ إلى الآخرين هكذا: “أنا هنا اسمعوني”، ثمّ السّعار الرهيب الّذي أصابني : ” يجب أن تعرفوا بأنّي على حق، أنتم مخطئين، أنا هنا لإنقاذكم “، لم يدم هذا السّعار طويلاً، تلاشى خلف سحر النّصوص الأدبيّة الّتي تشغل صاحبها بنفسه، يحزنني أنّني خسرتُ تلك اللغة الأدبيّة وصرتُ أمارس الكتابة مثلما أمارس الرياضيّات، الأمر أنّني لم أعد أكذب كثيرًا والأدب هو أن تكذب بصورة تدهش الآخرين.

كتبتُ في تلك السّنوات نصًّا مستلهمًا من قصيدة عبدالعزيز المقالح “ابتهالات”، عنونته بمقطع من القصيدة يقول: ” لم يعد مستقيمًا شعاع الصّباح”، ولو كتبتُ هذا النصّ الآن لسألت نفسي: هل يبدو لكِ شعاع الصّباح معوّجًا؟، لكنّ الكاتب أراد الاستعارة فقط، لقد كنتُ مهووسة بالاستعارات وهذا جانبٌ آخر في قدرتي الأدبيّة آنذاك، لكنّ السّؤال التّالي هو: “في سياق تشبيه الشاعر، هل كان شعاع الصّباح مستقيمًا قطّ؟”.

لا. يميل كثير من النّاس إلى تصوير النّكبة الإنسانيّة كطارئ حديث، ففي الماضي كانت الأمور بخير، لم يكن الإنسان بهذه الوحشيّة، كان الجيران متحابّون ومتعاونون، لم يكن مصطلح الطائفيّة قد اخترع بعد، أمّا الحروب فلم تكن بهذه الوحشيّة، كان الإنسان أقلّ شجعًا وأقلّ مادّية، وكان شعاع الصّباح مستقيمًا. لكن أيّ ماض هذا الّذي يتحدّثون عنه؟ في رأيي، أيًّا كان هذا الماضي فهو صورة للـ “الأزل”، يريد النّاس أن يقولوا بأنّ الحياة في الأزل كانت في خير ورحمة وسلام وأمان، أمّا الشرّ فطارئ حديث، ليس حديثًا جدًا لكنّنا إذا عدنا إلى نقطة البداية فلن نجده ولذلك فهو حرّيٌّ بالطرد، ولو كان الشرّ موجودًا منذ البداية فهذا يعني أزليّته، وكم يبدو هذا موحشًا ومخيبًا.

نعود إلى الكتابة عن الكتابة، ورغم أنّني هنا الآن، ورغم أنّني لم أكفّ لحظة عن أن أكون، إلاّ أنّني حين لا أكتب أشعر بأنّني لا مرئيّة، أشعر بانقطاع رهيب، وبمسافة هائلة تفصلني عن العالم، هناك ألوان مختلفة من “الوجود”، أحدها بالنّسبة لي “أنا أكتب يعني أنا موجود”، لكنّني أقابل هذا الوجود بوجود أكثر حدّية وصرامة “أنا أعمل يعني أنا موجود”، والكلام أحيانًا يصبح نقيضًا للعمل، ولذلك أتوقّف عن القراءة، الكتابة، تأخذ اللقاءات مع الأصدقاء شكلاً عمليًّا واضحًا وهذا يجعلني أكثر عزلة وانكفاءًا، أكسر هذه القاعدة أحيانًا لإيماني بأنّ الإنسان حيوانُ اجتماعيّ، وحين أفعل ذلك تزداد عندي حدّة اكتئاب “ما بعد المناسبات الاجتماعيّة”.

أدور في دوّامة هذين الوجودين، وعلى عكس الأدباء العدميين، إنّني أعرف جيدًا وأعي بأنّ الكتابة هي الشّكل الأكثر وضوحًا للتّواصل مع العالم، ولذلك أنا لا أكتب بسبب حاجتي للانعزال عن الآخرين، أنا أكتب لأتواصل معهم،وعلى عكس الأدباء العدميين أيضًا، أنا شخصٌ سعيدٌ .. غالبًا.

لا أقول ذلك متبجّحة فعدد قرّائي لا يمنحني الفرصة الكافية للتبجّح، لكنّ معرفة أنّ هنالك من ينتظر القراءة لي يمنحني دافعًا كبيرًا للنشر، حين يعاتبني أحدهم لأنّني لا أكتب أشعر بانفعال خاصّ لا أعرف اسمًا له، أقلّب مسوّداتي بخجل بحثًا عمّا يمكنني أن أعطيه إيّاه، أريد أن أخبره بأنّني “آسفة” وممتنّة، إنّني أحمل امتنانًا عميقًا لقرّائي يشبه الامتنان الّذي تحمله الأمّهات تجاه من يقدّر أطفالهنّ أو حتّى من يمنحهم بعض الحلوى، أليست كلماتنا أطفالنا على أيّة حال؟

8 رأي حول “نصّ عصيّ على الانتهاء

  1. سبب إضافي للكتابة: قدرتك على التعبير عن شعور الكثير، أدق وأصدق من محاولاتهم.

    هذه من التدوينات التي لو ألصقتها في مدونتي لما اعتبرت ذلك سرقة للأفكار 🙂 ، إنما سرقة لصياغة أجمل لأفكار استبدت بي غير مرة.

    لا عدمنا قلمك.

  2. عدد القراء لا يمت بصلة لجودة ماتكتبين 🙂
    إخلاصهم هو ما يصنع الفارق الكبير ..

    الكتابة منقذ ولا أبالغ، حينما أكتب وأقرأ اجدني أقل ضجرا وأوسع قبولا للحياة ولنفسي . أقل خطرا على العالم وعلى نفسي. 🙂

  3. الكتابة علاج لألمي، لحزني، لغضبي وجميع انفعالاتي، بها أُفرغ ما بداخلي وأعود للحياة من جديد

    وسجلي عندك … تونا متابعتك للأبد 💜

  4. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    منذ المدونة السابقة وانا اقرا لك يا راقية واليوم فقط اكتشفت الرابط الجديد ههه ربما لقلة استعمالي للحاسوب وانشغالي بانشطة الحياة الاخرى التي ابعدتني عني أنا الرقمية التي كانت تجد في مدونتك جزء كبيرا من شخصيتها
    سيدتي الراقية آشكرك من العمق فلكلماتك صدي عميق بداخلي يدغدغ شبابي فتتملكني الرغبة بتفجير طاقة هائلة
    احسان انت رائعة وانا لك متابعة

  5. ماشاءالله يا احسان ، لا أدري لم يراودني شعور أن من يقرر الابتعاد عن تويتر والشبكات الاجتماعية عموما يفقد روح الكتابة والتفاعل مع الناس، ربما لأنه يغيب عن أعيننا .. لكن مازلتي متألقة بظهورك وبريق كلماتك مازالت متوهجة .. سعيد جدا بهذه الاطلالة . أسعدك الله .

    yjuffali
    يوسف .

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.