هذه تجربتي الثّانية – بعد رواية ١٩٨٤ لجورج أوريول – في قراءة رواية أثناء مشاهدة الفيلم الّذي بني عليها في نفس الوقت، خصّصت يوم الجمعة الماضي لهذا الأمر، أقرأ بعض صفحات الرّواية ثمّ أشاهد جزءًا من الفيلم، وهكذا حتّى أنهيتهما خلال دفعتين .
في عام ٢٠٠٥ أو ٢٠٠٦ أوصتني إحدى الصّديقات بقراءة رواية العمى، اطّلعت على ملخّص القصّة وأجّلت قراءتها، ليس لأنّني لم أحبّها، لديّ أسباب أخرى لتأجيل القراءة، إنّنا حين نقرأ كتابًا ننهيه، ومن النّادر أن نعود إلى قراءته مرّة أخرى، وليست لديّ رغبة في إنهاء العديد من الكتب، كما أنّني أحيانًا أنتظر الوقت المناسب للقراءة، فلا يكفي الكتاب أن يكون جيّدًا كي أقرؤه، بل يجب أن يكون المناخ النّفسيّ مستعدًا له أيضًا.
العمى، إنّ أبرز ما في هذه الرواية هي غياب أسماء شخصيّاتها، بالتفكير في “مئة عام من العزلة” مثلاً ندرك كم أنّ هذا الغياب مفيد أحيانًا*، لا يوجد أسماء في رواية العمى، بل صفات بالكاد تُعَرّفنا على أصحابها: الطبيب، زوجة الطبيب، الفتاة ذات النّظارة السوداء، والأعمى الأوّل، أليس غريبًا أن تُقدَّم لنا إحدى أهمّ شخصيات الرواية بهذا الاسم المهمَل: الأعمى الأوّل .
إنّ الكاتب – سأسمّيه الكاتب انتقامًا لشخصياته – أراد بهذا التجريد أنّ ينزع عنهم من ما منحته إيّاهم الحضارة الإنسانيّة، هكذا أتخيّل، فالرّواية تعبير عن الانحطاط الحضاريّ الّذي قد تصل إليه البشرية حين يفقد الجميع أبصارهم، أو هي تعبير عن هشاشة الحضارة الّتي قد تُدمّر فقط بفقدان النّاس لأبصارهم – هل حقًا يكفي أن يحدث هذا كي تموت الحضارة؟ -، يكفّ النّاس عن التعرّف على أماكن الحمّامات فيتغوطون حيثما اتّفق، يفقدون الطريق إلى منازلهم فينامون على الأرصفة، ينقطع عنهم الماء وتتوقف الكهرباء لأنّهم عاجزون حتّى عن تشغيلها، وفي النّهاية يتعفّنون أكوامًا في مخزن الطعام لأنّهم لم يستطيعوا الخروج منه .
هناك مشاهد أخرى في الرواية لهذا الانحطاط لا أستطيع وصفها، ما جعلني أشاهد الفيلم في الحقيقة هو رغبتي برؤية هذا الانحطاط أمام عينيّ، فأن تشاهد أكوام الفضلات المتجمّعة في محجر صحّي للعميان هو أمر يضيف الكثير إلى تجربة القراءة عنها، على الأقلّ بالنّسبة لي، ولو استطعت أن أكثّف التجربة بالوصول إلى الروائح النتنة الّتي انتشرت في الرواية لفعلت ذلك .
زوجة الطبيب هي النّاجي الوحيد من مجزرة العمى، لم تنتقل إليها العدوى ببساطة، لماذا هي وحدها من بين ملايين النّاس؟ هذا سؤال بديهيّ، شخصيًا أظنّ بأنّ الكاتب احتاج إلى شاهد للأحداث، إلى شخص يساعده في بناء الرواية، وإلى زوج من الأعين لقرّائه، وقد اتّفق أن تكون زوجة الطبيب، ربّة البيت العاديّة الّتي لا تتميّز عن الآخرين في الرواية بأيّ شيء، ربّما ما عدا الشفقة المذهلة على الآخرين، لكنّ هذه الشّفقة قد تكون نتاجًا طبيعيًّا لاحتفاظها ببصرها في مجتمع أعمى، الشّعور المعذّب بالذنب لأنّها النّاجية الوحيدة من هذه المأساة – وهو شعور نحسّ به أحيانًا حين نصادف إنسانًا يعاني ممّا لا نعاني منه – أو ربّما أنّها شخصٌ رحيم ومشفق فحسب ظهرت قوّتها في هذه المأساة، فهي في نهاية الأمر امرأة، وما أقوى النّساء بعواطفهنّ .
عندما قرّرت البدء بقراءة هذه الرواية اعتقدتُ بأنّها مثل أغلب الكتب الأخرى الّتي أقرؤها قابلة للتجزئة، أستطيع قراءة صفحتين اليوم، خمسين صفحة غدًا، ثلاثة عشر صفحة في اليوم الّذي يليه … لكنّني عرفت مبكّرًا بأنّني مخطئة فتركتها حتّى أتفرّغ تمامًا لقراءتها في يوم أو يومين، قلتُ لصديقتي: إنّ هذه الرواية لا تُقرأ لمعرفة الأحداث، بل تُقرأ لعيش التجربة، تجربة العمى، تجربة الانحطاط الّذي يفترضه الكاتب، وحين تفرّغت لها فكّرت بأنّني لو أردتُ أن أكتب نصّا لفيلم فسوف يكون مبنيًا عليها، لا شكّ أنّ غيري فكّر بذلك أيضًا، بطريقة أعمق وأكثر جدّية، هكذا بحثت عن الفيلم وقررت مشاهدته أثناء القراءة .
مثل كلّ الأفلام المبنيّة على الروايات هناك اختصار للأحداث واختصار أكبر للكلمات، لكنّ فيلم العمى يتلاعب أيضًا في توقيت الأحداث ولا أدري لماذا، لا يوجد هدف واضح لهذا التلاعب، كما أنّه أضاف مشهدًا دخيلاً للقصّة، لكنّه بشكل عام جميل جدًا، لم يؤثّر في تجربة القراءة سلبيًا لكنّه أثراها وأغناها وهذا ما هو مفترض من الأفلام أن تفعل .
أخيرًا، بدأت بقراءة رواية أخرى للكاتب وهي “انقطاعات الموت”، لا أشعر بأنّني سأحبّها مثلما أحببت العمى، رغم أنّ بداية الرواية الصادمة أذهلتني – يتميّز الكاتب بهذه الصّدمات المباشرة -، لكن، لا أدري، يوجد أيضًا جزء آخر من رواية العمى وهو البصيرة أو Seeing أتوق لقراءته، أنوي إنهاء أعماله البارزة في الفترة القادمة، كتبت هذه المراجعة المزدوجة على عجل، شكرًا جزيلاً لإعطائي جزءًا من وقتكم لقراءتها، إلى اللقاء .
* الأسماء في رواية مئة عام من العزلة كثيرة ومكرّرة بشكل مزعج للقارئ، أوممتع ربّما.
إحسان ! أيتها الغريبة التى لا أعرفك .. ! بالنسبة إلى .. أنت النسخة الكبيرة التى أود أن أكونها ، أحب كتاباتك لدرجة لا تستطيعين تخيلها .. بل قولى أعشقها حد الجنون ..! ما يثيرنى غالبا .. قدرتك أحيانا على قراءة عقلى ، ولا أخفيك القول .. إنى أشعر أحيانا أنك تسرقين عقلى وأنا نائمة أو تعبثين بما كتبته على حاسوبى لتكتبيه بطريقة أفضل بكثير .. ! مازال لدى وقت طويل جدا لأصل لحد الكتابة الجميلة التى تكتبين بها .. إنى منبهرة بك تماما ! ولا تعلمين كم تنقذنى تدويناتك أحيانا من حدة اكتئاب شديد .. فـ شكرا لك حقا ، ممتنة لك بشكل لا يوصف .. أنت شخص ملهم حقا .. وأستطيع القول بجدارة أنك من أجمل الأشخاص الذين قرأت لهم .. بالمناسبة لقد قرأت كل تدويناتك منذ زمن طويل .. أتابعك عن كثب يا صديقتى وأرجو لك الخير .. وأن يجمعنا الله يوما ما حتى أستطيع عناقك بشدة .. شكرا لك كثيرا يا أختاه ..