كنتُ أمشي سعيدةً في طريقي إلى محلّ أغراض منزليّة، مزهوّة بمساحة الاختيار الحرّ الّتي أؤتيتها منذ تزوّجت، منتشية بالهواء البارد في المدينة الّتي سكنتها مؤخرًا، وممتنّة للأعشاب المدهوسة والأشجار المترامية.
توقّفت عن الحركة فجأة وسط الشّارع وقلتُ لنفسي: “تموتُ وأنتَ لا تدري”.
هكذا ترادوني أفكار الموت، فجأةً مثلما يفعل الموت نفسه، لا تتسلّل إليّ من خلال مقبرة أو جنازة، لا تأتيني في صور قتلى الحروب ولا أسرّة المستشفيات البيضاء، بل تجريديّة ومفاجأة، تقتحم قفصي الصّدري فتضخّم كلّ شعور حيّ أحمله، الحبّ، اليأس، الأمل، السّعادة، الخوف، الفزع، الفراغ، واللاجدوى.
فكّرتُ ثانية: من السخريّة بمكان أنّ الإنسان لا يملك أيّ اختيار في أهمّ حدثين في حياته، مولده ومماته، لا يعرف الإنسان متى يخرج من عالم الغيب إلى الدّنيا، ومتى يعود من الدّنيا إلى عالم الغيب.
لكنّني عدتُ لأفكّر بأولئك الّذين اختاروا موتهم طواعية، الّذين زحفوا إليه مثلما نزحف إلى الحياة، الّذين جعلوا من موتهم اختيارًا حرًّا، ياه ! ما أعظم أن يجد الإنسان ما يموت لأجله، وهذا أمر مختلف جدًا عن اختيار الموت حين لا يجد الإنسان ما يعيش لأجله.
ثمّ شاهدتُ فيلم The Last Samurai – وهو فيلم رائع جدًا أوصي به -، وحين بدأتِ المعركة بين رجال الساموراي والجيش اليابانيّ، قلتُ لزوجي بأنّني لا أفهم كيف يقدم النّاس على موتهم هكذا، الأمر مخيفٌ جدًا، ثمّ سألته: هل ستدخل في معركة كهذه؟ فأجابني: ” نعم، إذا كانت من أجل ما أؤمن به”، شعرتُ بالحزن، ليس لديّ ما أؤمن به كفاية للقتال في معركة في سبيله.
هذه هي الحلقة النّاقصة، الحلقة الضّعيفة الّتي تجعلني أقلّ انسجامًا مع الكون، الحلقة الّتي تشدّني العدميّة من خلالها، لستُ على وفاق مع الموت، ليس لديّ ما أموت لأجله، قد تكون بعض الأشياء عزيزة لديّ بما يكفي لاقتلاع عينيّ من أجلها، لكن لا شيء، لا شيء مهما كان عزيزًا يستحقّ الموت.
لكنّنا سنموت على أيّة حال، لا يمكن تجاهل هذه الحقيقة، واختيار طريق للموت يبدو منطقيًا أكثر من ترك الأمر برمته للوقت. ومع ذلك نحن نحاول تأجيل الموت قدر استطاعتنا، إنّنا نؤجّل الموت إلى الحدّ الّذي نذهب معه إلى الاستعاذة منه حين نذكره، إلى تجنّب الكتابة عنه، إنّنا لا نذكره إلاّ على حذر وكأنّه سيدخل علينا حين يسمع اسمه، لكن إلى أين نهرب؟ إنّنا نموت كلّ يوم، تموت خلايانا، يتساقط شعرنا، تُوهن أجسادنا، تتحوّل أيّامنا إلى ذكريات، نفكّر فيها كحلم قديم ونحن نتساءل: هل كنّا حقًا ما كنّاه؟ أين ذهب الطّفل الّذي كنّاه يومًا؟ إلى أين يمضي الوقت بعد أن يقطعنا؟
السلام عليكم،
في الحقيقة أنا سعيد باكتشاف هذه المدونة بعد أن أصبحت المدونات أشبه ما تكون بواحات موسمية في صحراء المواقع الاجتماعية….
في تقديري أنك تعتقدين أنه ليس لديك ما تموتين من أجله، وليس بالضرورة أن يكون اعتقادك هذا عين الحقيقة، أعني أنه ربما قادك شعور دفين في أعماق نفسك مبناه على استرهاب الموت واستفظاعه إلى هذا الاعتقاد، على كل الإنسان لا يمكنه أن يكون متأكدا في مسألة كهذه ما لم يكن بحاجة إلى اختيار أحد الأمرين ولا بد.
امتع اوقاتي حين قرأت تدويناتك، عدت لزمن جميييييل
بصراحة تدوينتك هذه اثارت في نفسي حزن شديد، إني اقاوم الموت لخوفي منه…. اخاف من المجهول
شكراً لك، مدونتك جميلة وممتعة وتعبيرك بسيط ويشد القارئ للإكمال ، ونادر اجد شخص يمتلك هذه الموهبة 🙂
ايصال الفكرة ببساطة التعبير مع الحفاظ على جمالها
الله يخلّيك يا مجد، مثلك من يدفعني للاستمرار للكتابة والنّشر
لكن هل فعلاً كان اختيارهم للموت في سبيل إيمانهم وحسب؟ لا أعتقد! أحياناً، يجبر المرء على اختيار الموت بشرف لأن الحياة خيار لا يحتمل، إما الفوز وإما الموت كما في حال الساموراي والحروب بشكل عام، الخسارة تعني عذاباً لا ينقطع لدرجة تجعل الموت الخيار الأفضل.
تقديس الموت بشرف والتضحية بالنفس كان منتشراً في العصور الماضية لكن مع تقدم الزمن، أظننا صرنا أكثر عملية في حساباتنا إذ أن حياة مديدة تخدم في سبيل إيماننا أجدى من التضحية التي لا تعود على أحد بالنفع، بل أسوأ من هذا، فهي استسلام واضح وطريق سهل لتبرير فشلنا في التحمل والمواجهة لتحقيق ما نؤمن به.
شخصياً، لا أظن اختيار الموت شيئاً مشرفاً إلا إن كان تضحية للآخرين، أمٌ تفضّل الموت لحماية أطفالها، أو شخصٌ ضحى بحياته لإنقاذ الآخرين! في مواقف لم يكن فيها خيار آخر سوى التضحية.
أخيراً، شكراً إحسان! سعيدة لوجود هذه المدونة العظيمة 💚