١٤ ديسمبر ٢٠١٦

أفكّر أحيانًا كيف انتهت بنا الحياة هكذا، متفرّقات في ثلاثة دول بعيدة عن بعضها، لا نكاد نلتقي إلاّ عبر الصّور والرّسائل القصيرة، هذا الغياب الهائل بعد الحضور اليوميّ الكثيف هو جزء ركيز من سؤال الوجود بالنّسبة لي، إلى أين ذهبت كلّ تلك الأوقات؟ إلى أين ذهبنا نحن؟ ما الّذي تغيّر بالتحديد؟ ماذا يعني أنّنا كبرنا؟ وهل كان الأمر أنّنا كبرنا فقط، سافرنا ببطئ من نقطة إلى أخرى، ولم يكن سفرًا يسيرًا قط، لقد مشينا كالفقراء العاجزين عن شراء التّذاكر، تنقّلنا كالمهاجرين، بلا جذور ولا رصيد.

ثمّ هنّ، إلى أين ذهبن؟ ماذا يفعلن الآن؟ والأهم، إلى أين ذهب ماضيهنّ وماضينا؟ إلى أين ذهبت جدّتي الّتي كانت تجلس على كرسيّ خشبيّ صغير، تعجن الخبز وهي تزجرني لأنّني أخبرتها بزواج معلّمتي في المدرسة، فالصغيرات المؤدّبات لا يتلفّظن بلفظ “زواج”، إلى أين ذهبت خالتي الّتي كانت تعطيني ملعقة خشبية كي أطرق شبّاك أمّي عبر شبّاكها؟ إلى أين ذهبتُ أنا، أتناول حلوى الجيلي مع محمّد على أرض المطبخ في نهار رمضان، ونتفاجئ بياسر وهو يبدأ الحبو لأوّل مرّة.

ماذا يحدث؟ لماذا لا يسكن هذا العالم قليلاً؟ يمنحنا الفرصة في أن نقف على خطّ الزّمن ونلتقط أنفاسنا؟ أن نكون نحن لمرّة واحدة دون أن نكبر في اللحظة الّتي تليها، لماذا يتحرّك هذا الخطّ بجنون ولا يمكن لنا إلاّ أن نلاحقه لاهثين بضعفنا وقلّة حيلتنا؟ ماذا سيحدث لو أنّ الأمر توقّف على ما كان عليه؟ في منزل حجريّ تفوح حوله رائحة البيّارت الطّافحة، في عمر صغير حيث لا يموت أحد، في فقر كاف كي لا نطمع بالمزيد، من الّذي استفاد من تفجير فقاعة أماننا؟ كتّاب الحكايات؟ صانعوا الحرب؟ العمّال الواقفون على عجلة الحياة؟

لم أكن أريد أن أكبر، كنتُ متشبّتة بطفولتي، تشبّتُ المرء بهوّيته، وأتساءل الآن، هل نجح هذا التشبّت؟ كم اصطحبتُ معي من طفولتي عبر كلّ هذه السنوات؟ ثم لماذا اختبرتُ الخوف من فقدان الطفولة مبكرًا؟ وكيف عرفتُ بأنّ هذه السعادة قصيرة؟

١٨ أكتوبر ٢٠١٩

قال لي أحد أصدقائي قبل عدّة سنوات، بأنّني أبدو حزينة حين أكتب، استنكرتُ ما قاله وضحكت، فمنذ وقتها كنتُ قد تجاوزتُ الارتباط العاطفي بالحزن والألم، ولكنّني فكّرتُ وما زلتُ أفكّر في حاجتي إلى الحزن كي أستمرّ بالكتابة، عندما أكون سعيدة يكفيني أن أعيش، وعندما أتألّم أفكّر كيف يمكن لهذا الألم أن يصير قصّة أو رقصة أو أغنية أو نصًا أدبيًا. في السابق، كنتُ أخاف خسارة حزني لأنّ في خسارته خسارة لنفسي، أو ما اعتقدتُ بأنّه نفسي، أمّا الآن فقد نضجتُ كثيرًا وأحببتُ حين نضجتُ الضحكات والانتشاء والسعادة والسلام، إنّني قادرة على الإحساس باللحظة الحلوة في وريدي، تمامًا كما هي قدرتي على الإحساس بالحزن فيه.

ولكنّ الأمر مختلف مع الكتابة، ما زالت نصوصي تتغذّى على شعور الألم، حين أفتح محرّر الكتابة ثم لا أجد في صدري ألمًا عميقًا أشعر بالتوهان، وكأنّني ضيّعتُ قلمي أو – لأكون أكثر دقّة – وكأنّ لوحة مفاتيحي تعطّلت، أصبح وحيدة، إنّ الألم هو جنّي الكتابة الخاص بي، يتلبّسني ويؤذيني ويمتصّ غذئي، ولكنّه يساعدني على الكتابة، يساعدني في أنّ أكون فنّانًا ولو عبر نصّ قصير، وبصدق، إنّ جزءًا منّي يرى في هذا تجارة رابحة.

يقودني هذا إلى السؤال الأهم “هل على الفنّان أن يكون بائسًا؟”، ويذكّرني بإحدى صديقاتي الرسّامات، حين ترسم شيئًا سعيدًا أبتسم – وهذا أمر جيّد – ولكنّها حين تعبّر عن آلامها بالرسم ينقبض قلبي، هل يمكن للسعادة مهما اشتدْت أن تحمل التّجارب الّتي يحملها إلينا الحزن؟ ربّما حين تشتدّ السعادة أو يشتدّ الحزن يصبحان وجهًا لعملة واحدة، ولهذا فإنّ الحزن الّذي اختبرته بعد انتهاء حفل BTS في الرياض كان قويًا وأدركتُ معه بأنّني لم أختبر الحزن منذ فترة طويلة، ولعلّه السعادة بلغت الحدّ الّذي لا تستطيع بعده إلاّ أن تكون حزنًا.

كيف يمكن لي أن أحوّل تجاربي السعيدة إلى مادّة فنّية، أستطيع أن أكتب يوميّاتي، أو مثلما يفعل العديد من المدوّنين – الّذي أتصوّرهم سعداء – وأبدأ بكتابة تحديثات شهرية، ماذا فعلتُ في أكتوبر؟ تعلّمتُ التطريز، أنهيتُ مفرشًا بالكروشيه، قرأتُ جزءًا من مذكرات أوغسطين، شاهدتُ فيلم الجوكر وثلاثية three colours trilogy، يبدو هذا لطيفًا وحميميًا ولكنّه ليس فنًّا، أنا أعرف كيف يكون الأمر مختلفًا، أعرف الفرق جيدًا بين كتابة نصّ فنّي وكتابة تدوينة أو مقال أو حتّى نصّ أدبي جامد، وأنا أحتاج إلى الأوّل بشدّة.

لكن، لو أنّ الأمر ابتدأ بالألم لا الكتابة، أي لو أنّني تعلّمتُ كيف أكتب نصوصًا فنّية لأنها الطريقة الوحيدة الّتي أعبّر فيها عن آلامي الروحية، هل تنتفي هذه الحاجة بانتفاء الألم؟ ومن ثمّ فإنّ تشبّتي بهذا الشكل من الكتابة هو الآخر تشبّت لا معنى له وزائف؟

وهل قُتل الفنّان منّي قبل أن يكتمل نموّه؟

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.