بدأتُ قبل شهرين بكتابة  نصّ في مدوّنتي بعنوان : ” ماذا يعني أن تربّي قطّة؟ ” ولم يدر بخلدي وأنا أؤجّل الكتابة بأنّ النّص سيتحوّل إلى رثاء قطّتي الجميلة يوكي الّتي رحلت مساء الأمس وبقي شعرها عالقًا في ملابسي وصوتها في جدران المنزل.

لا زلتُ أذكر قبل ستّة أشهر حين كانت تلعب تحت مكتب زوجي ونحن نفكّر باسم لها فاقترح زوجي “يوكي”،  ويوكي هو الثلج باليابانية،  ولم تكن يوكي بيضاء كالثلج ولكنّها رحلت سريعًا مثله،  بعد أن اختلطت روحها بروحي وتركت داخلي أثرًا لم يتركه أحدٌ قبلها قط.

ولا أدّعي بأنّني أحبّ يوكي أكثر من أي أحد،  ولكنّني أحبّها مثلما لم أحبّ أحد، لقد جرّبتُ في نفسي شيئًا لم أجرّبه أبدًا حين أحببتُها وأحبّتني،  لقد كانت الجزء الأكثر بياضًا وطهارة في حياتي،  حتّى أنّني كنتُ أفكّر بأنّه،  لربّما أرسل الله لي في هذه القطط أرواحًا صافية مجرّدة كي تضفي كلّ هذا الجمال على عالمي الفوضوي.

هناك سحرٌ عميق وآسر في العلاقة بين الإنسان والحيوان،  سحر يغيّر روحك للأبد،  يعيد ترتيب علاقاتك الكونية، يخفض جناح الغرور الإنسانيّ لديك ويهذّبه .

قبل أسبوعين تقريبًا، عدتُ متعبة من العمل بعد دوام يوم طويل، استلقيتُ واستلقت يوكي بجانبي،  مسحتُ على شعرها وأنا أفكّر : الحمدلله بأنّ يوكي موجودة في حياتي، لاحظتُ حينها بأنّ درجة حرارتها مرتفعة أكثر من المعتاد، لقد كانت تهاجمها نوبات حمّى وأخذتها للطبيب مرّتين فوصف لها مضادّ حيويّ،  قرّرتُ أخذها في الصباح لعيادة بيطرية أخرى.

عندما أخبرني الطبيب في اليوم التالي بأنّها مصابة بالـ FIP، أجبته بلا قلق : وما هي الخطة العلاجية؟

– لا توجد خطة علاجية،  كل ما نستطيع فعله هو تبطيء تطور المرض،  لكنه مرض قاتل وستموت في النهاية.

ما شعرتُ به حينها هو أنّ الحياة غير عادلة معي إطلاقًا،  وكأنّ هنالك ثأرًا بيننا حتى تقابل سعادتي بهذا الخبر، خرجتُ من المستشفى وذهبتُ إلى مكان آخر لأنّي لم أكن مقتنعة تماما برأي الطبيب،  أجرى لها الأطباء في عيادة أخرى فحوصًا مختلفة وأكّدوا لي التشخيص قبل أن يقول أحدهم ببرود : هل تريدين إجراء قتل رحيم؟

لا لا لا،  من المبكر قول ذلك،  عدتُ لأقرأ المزيد عن مرضها،  وكلّما قرأتُ أكثر كلما أصابني اليأس أكثر، إنّه مرض قاتل لم تُسجّل حالة لأي قطة شُفيت منه، ويوكي مصابة بالنوع الأشدّ فتكًا منه حيث يُتلق الكبد وتتجمّع السوائل في البطن، بكيتُ كثيرًا،  أعني،  انتحبتُ كثيرًا،  تركتُ لزوجي قرار القتل الرحيم،  لم أكن أريدها أن تتعذّب ولم أكن أريد أن أختطف فرصتها المعدومة بالنجاة.

في اليوم التالي عدتُ باكرًا من العمل،  فتحتُ باب الغرفة فوجدتها واقفة ملتصقة به تنتظرني،  احتضنتها وأخذتها إلى طعامها فأكلت بشراهة،  وجدتُ حينها بأنّني أرفض تمامًا حملها إلى الموت وهي لا زالت ممتلئة بالحياة،  بعد ذلك،  عشتُ وقتًا سعيدًا معها، كانت كلّ استجابة منها للدواء تغمرني بسعادة لا توصف،  كلّ مرّة توافق فيها على الأكل دون إجبار،  كلّ حركة،  كلّ قفزة،  كلّ محاولة لتنظيف جسدها،  وباختصار كان وجودها وحده يشعرني بالامتنان الشديد.

قبل الأمس بدأت أنفاسها تصبح أكثر صعوبة،  اعتقدتُ بأنّها أُصيبت بالزكام،  أخذتها للطبيب،  زاد جرعات أدويتها،  ٦ أقراص عليها أن تأخذها يوميًا،  عدتُ بها إلى البيت،  لم يتحسّن التنفّس عندها، فتحتُ الماء الساخن في الحمّام ووضعتها على السجاد لعلّه كما قرأت يساعد على تخفيف انسداد أنفها،  لا فائدة.

في كلّ لحظة كانت أنفاس يوكي تصبح أكثر سوءًا،  في الساعة التاسعة مساء الأمس أخذتها للطبيب مرّة أخرى، كانت العيادة على وشك الإغلاق، عرفتُ من خلال نظرات طبيبها بأنّه عاجز عن المساعدة، أخذها إلى غرفة الأشعّة،  ولمّا عاد أخبرني بأنّ وضعها سيء،  لقد وصلت المياه المحبوسة في بطنها إلى رئتها، بكيت من جديد،  ولم أتوقف عن البكاء حتّى صعدتُ سيارة أوبر عائدة إلى المنزل.

كنتُ أنتحب في السيارة،  وبدأ السائق بالقلق علي: أختي انتِ بخير؟  تحتاجي المستشفى؟  أقدر أساعدك بشيء؟  لم أكن أريد الإجابة لا لأنّني أخجل من انتحابي لهذا السبب، أعرف بأنّ العديد من النّاس يستنكرون على أنفسهم الانتحاب لأجل حيوان أليف لكنّني لستُ منهم،  ما منعني من الإجابة هو مخافة أن يبدي السائق أيّة ردة فعل ساخرة، لكنّني كنتُ مخطئة،  فما إن فهم حزني حتى قال لي: أنا عارف ايش تحسي،  أنا مولود في قرية وعشت فيها وكنت أبكي كل مرة أبوي يأخذ حيوان عشان يذبحه، كنت أبكي على الخرفان والدجاج والماعز “، حاول تهدئتي بالحديث عن أطفاله واستشارتي في جلب قطة لهم،  كان لطيفًا ومهذبًا.

في المنزل، كنتُ أستلقي على سريري بجانب يوكي، مع كلّ نفٓس كانت حالتها تزداد سوءًا ومع كلّ نفَس كنتُ أشعر بالذنب الشديد لأنّني أخذتها للطبيب ولم أطلب منه تخليصها من عذاباتها، لقد بلغت حالتها من السوء أن اضطّر زوجي للاتصال على الطوارئ من أجل إجراء قتل رحيم لها.

انتحبتُ للمرّة الألف، كان الشعور بالعجز والتفاهة والخوف يملئ رئتيّ،  احتضنتها وودّعتها : شكرًا لأنّكِ كنتِ جزءًا من حياتي،  أعتذر لأنّني لم أستطع مساعدتك.

.

.

أكثر ما كنتُ أخشاه ليلة رحيل يوكي هو الاستيقاظ، أخذتُ باندول نايت كي أخفف ألم الصداع وأتمكّن من النّوم، لكنّني فوجئتُ عندما استيقظت بسعادة تحاول موازنة شعوري بالحزن، لم تكن يوكي موجودة هناك،  لكنّ ألمها ومعاناتها لم تكن هناك أيضًا، وفي كلّ مرة يعتصر قلبي حزنًا على فراقها أتذكّر لحظاتها الأخيرة وأنفاسها الصعبة وصورة الماء المتجمّع في رئتيها الصغيرتين فتهدأ لوعتي وأبتسم.

عندما عرفتُ بطبيعة مرض يوكي بدأتُ بالقراءة والبحث حول التعافي من ألم فراق الحيوان الأليف،  الكثير من الخبراء كان يقول : لا تخجل من حزنك،  لا تلم نفسك لأنّ الرّاحل لم يكن إلاّ حيوانًا،  لا أحمل هذه المشاعر أبدًا وأستنكرها، إنّ يوكي كانت فردًا من عائلتي وفي كلّ مرّة تخيّلتُ نفسي في صورة عائلية كانت موجودة بجانبي، يوكي هي صديقتي الّتي ساهم غياب اللغة المشتركة في جعل هذه الصداقة روحيّة وصافية دون سوء فهم ودون عراكات لغوية متراكمة، كنت أحبّ القراءة بصحبتها وسماع الأغاني معها والتواجد حولها، أغنية خالد الشيخ “عطني وعد” بالذات مرتبطة عندي بيوكي،  كنتُ أغنّيها لها دائمًا وعندما مرضت، أصبحت الأغنية أكثر ارتباطًا بها.

سألتُ نفسي أكثر من مرّة، لو قُدّرت لي العودة إلى الماضي حين اخترتُ أن تعيش معي يوكي، وكنتُ مدركة لكلّ هذه الآلام الّتي ستصيبني من بعدها، هل سأكرّر هذا الاختيار؟ وفي كلّ مرّة، مهما كانت الآلام تكون الإجابة: نعم، حتّى لو تكاثرتِ اللوعة في داخلي عشرين ضعفًا، ما زلتُ ممتنّة لكلّ لحظة عشتها مع يوكي وسأكون ممتنّة لها .. إلى الأبد.

4 رأي حول “يوكي،  مثل كلّ الأشياء الحلوة

  1. لدينا قط في منزلنا أيضا لذا شعرت بكل كلمة قلتيها وكدت أبكي أثناء القراءة، أفهم شعورك تماما وأنا حزينة لأجلك، الحمد لله على هذه الأيام واللحظات اللطيفة التي قضيتيها معها. 3>

  2. عندي قِط ويتكرر علي شعور بالخوف إذا ما تعب أو مرض أن يفارقني.
    كان قاعد فوق راسي وأنا أقرا كلامك صحت مرررة وما تركته لين عضني مع وجهي وخرب تأثري الواضح ودموعي.

  3. إحسان ،، أتعلمين أن قطة إبنة عمي ماتت أيضًا بذات الفايروس، انتحبت هي كثيرًا وانتحبت أنا لأجلها..
    ولكن سرعان ماتداركت نحيبها واخذت باقي قططها للطبيب لفحصها و الإطمئنان عليها وطمأنها بأنهم بخير

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.