تشوكي :
ما إن عدتُ من كوريا حتّى وجدتُ نفسي أحادث تشوكي على KakaoTalk : أريد الذهاب إلى سول ثانية في إبريل .. في موسم ازذهار أزهار الكرز، هل سأراك هناك؟
وأجابتني بأنّها حصلت على عمل جزئي في سول ولكنّها لن تتمكّن من الذهاب إلاّ في مايو، فقلتُ لها مباشرة: لو كان الأمر هكذا فسأحاول تأجيل خطتي حتّى مايو، إنّ رؤيتك أحبّ إليّ من رؤية أزهار الكرز.
وتشوكي صديقة سانغفورية، تعرّفت عليها عبر الانترنت قبل السّفر إلى كوريا، يجمع بيننا حبّ ستديو 1Million للرقص، وحبّ كوريا واليابان بالتّأكيد.
تقابلنا لأوّل مرّة في قرية بوكتشون التاريخية، حيث تنتصب مبان جميلة جدًا وساحرة بعمر الستمئة عام، كانت ترتدي تنورة بيضاء قصيرة وقميصًا ورديًا، لم تكن لدينا خطّة محدّدة، بقينا نمشي لوقت طويل قبل أن نقرّر الذّهاب إلى شارع ميونغدونغ حيث أقيم، وهناك زرنا محلاّت المكياج ومنتجات العناية بالبشرة ثمّ ذهبنا لزيارة مقهى الكلاب سويّة.
ومن ذلك اليوم حتّى يوم غادرت تشوكي، كانت تسألني كلّ صباح: ما هي الخطّة؟ وكانت تذهب معي حيث أردت، في الحقيقة، إنّني أنتبه لهذا للتوّ، لم تقترح تشوكي مكانًا معينًا إلاّ مرتين فقط، كانت تطاوعني دائمًا ولحسن الحظ لم أخيّب ظنّها أبدًا.
أجمل ذكرياتي مع تشوكي كانت حين صعدنا إلى قمّة جبل أتشاسان سوية، وهو أوّل جبل تشرق فيه الشّمس في سول، كانت المرّة الأولى لها الّتي تصعد فيها جبل، ولكن لأنّها رياضية وراقصة فقد كان النّشاط أسهل بالنّسبة لها منّي، وقبل أن نبلغ قمّة الجبل أخبرتها بأن تصعد قبلي كي ألتقط لها صورة من بعيد، أتذكّر بأنّها قالت لي: لا أريد الصعود بدونك .. فأخبرتها بأنّني سألحقها ركضًا على الفور وقد فعلت، وجلسنا في سفح القمّة برفقة زوجين عجوزين وأربعة صديقات عجائز ولم أرى تشوكي تلتقط صورًا شخصية مثلما فعلت تلك اللحظة، كانت سعيدة جدًا بإنجازها.
في كلّ يوم كانت تشوكي تصبح أكثر جمالاً، وكنت أحبّ جدًا التقاط صور لها من حيث لا تعلم، وعندما كنت أطلعها على تلك الصور كانت تفرح بها جدًا.
جيمي :
رغبتُ بالتعرّف على أشخاص جدد من خلال تجربة العيش المشترك والخروج معهم، لكنّ هذا حدث بشكل أقلّ ممّا توقعته، كانت الفتيات لا يبقين أكثر من ثلاثة أيّام أو أربعة في الغرفة لينتقلن إلى مدينة جديدة أو دولة جديدة أو يعدن إلى أوطانهنّ، كما أنّ معظمهنّ كنّ يزرن سول بهدف الخروج إلى أسواقها، وعلى الرّغم من أنّ لزيارة الأسواق لذّة خاصّة حتّى أنّني زرت سوق شارع ميوندونغ وحده أكثر من ٣ مرّات، إلاّ أنّني رغبت بزيارة أماكن أخرى بشكل أكبر وكانت الأسواق تسبّب لي سعادة مؤقتة وشعورًا بالضيق بعد زيارتها.
فتاة واحدة فقط من السّكن حظيتُ بمتعة الخروج معها، جيمي الفلبينية، وهي فتاة لطيفة جدًا تعمل في مجال قريب من مجالي، حين استيقظتُ في آخر يوم لي في سول كانت هي قد استيقظت لتعيش أوّل أيامها فيها، فخلال ٤ أيام سابقة كانت جيمي تقيم في مدينة بوسان جنوب كوريا.
سألتني عن جدولي لذلك اليوم فأخبرتها بأنّني أنوي زيارة حديقة طبيعيّة ومن ثمّ الذهاب إلى سوق غانغنام المشهور، أخبرتني بأنّها تنوي الذهاب إلى غانغنام أيضًا وعرضت علي أن ترافقني، قلت لها بأنّني عادة ما أطيل البقاء في الحدائق ولا أعرف إن كان هذا مناسبًا لها، كانت عادة النسيان لديها تذكرني بنفسي، اضطرت للعودة ثلاث مرات للسكن كي تجلب أغراضًا كانت قد نسيتها، وفي كل مرة كانت تكرر فيها قول: أنا آسفة كنت أقول لها: لا عليك، إنني أفهم شعورك.
تناولنا الإفطار في مقهى محلّي ثمّ انطلقنا إلى حديقة Dream Park، قضينا سويّة وقتًا ممتعًا جدًا وكانت جيمي مسحورة كلّية بالحديقة وبقلّة زوّارها، طلبت منّي أخذ العديد من الصّور لها إلى الحدّ الّذي نفذ صبري بعده، دعوتها إلى الغداء وتناولنا طبقًا إيطاليًا وآخر ياباني، أخبرتني حينها بأنّها تسافر كثيرًا بسبب عملها ولكنّها تكره السّفر إلى أوروبا لأنّها لا تحب الطعام الأوروبي، وقد كان ذلك مثيرًا لرضاي، إذ أنّني أعرف الكثير ممّن لا يحب زيارة الدول الشرقآسيوية بسبب نوعية الطّعام لكنّ هذه هي المرّة الأولى الّتي أقابل فيها شخصًا يشعر بهذا تجاه الدول الأوروبية.
تحدّثنا كذلك عن الـ stereotyping الّذي نواجهه من الآخرين، قالت لي بأنّها قابلت العديد من العرب الّذين يظنون مباشرة بأنّها عاملة منزلية لمجرّد أنّها فلبينية ولا يصدّقونها حين تخبرهم بأنّها تعمل لصالح شركات برمجية عديدة، فأخبرتها بالفتى الايرلندي الّذي لمّا عرف بأنّني من السعودية قال لي مباشرة: واو كيف استطعتِ الهروب؟
كنّا سعيدتين وارتفعت أصوات ضحكاتنا حتّى أنّنا لم نغادر قبل غروب الشمس رغم كلّ الخطط الأخرى الّتي كانت لدينا.
ثمّ ذهبنا إلى شارع هوندي – وسأتحدّث في تدوينة منفصلة عن هذا الشارع الساحر في سول – وزرنا مقهى Thanks Nature المشهور بخرافه الجميلة جدًا والّتي يمكنك شرب القهوة أو الشاي أو العصائر اللذيذة بصحبتها.
وفي شارع هوندي مشينا طويلاً إلى مكان افتراقنا، حيث كانت جيمي على موعد مع صديقة كورية، وحيث ودّعت جيمي هناك لم أرها مرّة أخرى، وكلّما صادفت صورها الآن في انستغرام تنتابني تلك السعادة الّتي شعرتُ بها حين خرجتُ معها .. ليوم واحد فقط.
يونغ هوا :
عندما خرجت من متحف الحرب الكوري بعد زيارتي الأولى له، كان الجو باردًا جدًا فدخلتُ أول مقهى صادفته في طريقي، وهذا يحدث كثيرًا في سول، في كلّ ركن سوف تجد ملاذًا على هيئة مقهى يستقبلك بعد مشي طويل أو يحميك من البرد.
لم يكن هناك أي زبون غيري وكان البائع شابًا صغيرًا وخجولاً، طلبت أغرب شيء وجدته في القائمة وجلست في طاولة مطلة على الشارع، ثم انتبهت بأن المقهى هو – بالإضافة لكونه مقهى – مكتبة ومركز روحاني للتأمل وممارسة اليوغا، لطرافة الأمر، كان طلبي عبارة عن آيسكريم، لذيذ جدا نعم، لكنه آيسكريم، وقد دخلتُ المقهى باحثة عن الدفء.
تصفحتُ المكتبة وجلبتُ منشورًا بالانجليزية عن التأمّل وعدتُ لطاولتي، في تلك اللحظة دخل إلى المقهى عجوز في الخمسينات أو الستينات من عمره، ابتسم لي لحظة رآني وعرفتُ مباشرة بأنّه سوف يكون سعيدًا بمحادثتي، إنّ عجائز كوريا هم المفضّلين عندي، أكثر انفتاحًا من الشباب للحديث مع غريب عابر، ففي كوريا حين حاولت الحديث مع شباب لا يحسنون الانجليزية كانوا يشعرون بالحرج ويقومون بصرفي مباشرة، أمّا العجائز فيحاولون التجاوب معي بأية طريقة، سوف يحدّثونني بالكورية أو يطلعونني على صور تعبّر عمّا يرغبون بقوله، أو يحاولون استدعاء كلمات انجليزية بسيطة ومفرّقة علّي أفهم.
سألني بالكورية: من أين أنتِ؟ فأجبته: من السعودية، حاول مواصلة الكلام معي بالكورية، ولحسن الحظ كان كنت قد قمتُ بتحميل تطبيق iTranslate والّذي يمكنك من ترجمة حديثك الشفهي مباشرة إلى اللغة الّتي ترغب بها، وهكذا استكملنا حديثنا من خلال التطبيق:
– هل أعجبك المقهى؟
– نعم، إنه دافى
– أنا أعمل هنا
– أوه هذا جيد، هل هذا الفتى هو ابنك؟
– لا لا إنه طالب يعمل بدوام جزئي
– أظن بأنه لطيف
ثمّ وقف أمامي وبدأ بأداء رقصة بسيطة تمتزج فيها اليوغا مع حركات الدفاع عن النفس، وأظنّ بأنّه كان يحاول أن يقول لي بأنّ المقهى يروّج لمدرسة التأمّل هذه.
– هل يمكنني التقاط صورة لك؟
– أوه نعم بالتأكيد!
كان معجبًا جدًا بالتطبيق وطلب من الموظف الجزئي أن يساعده في تثبيته، تبادلنا حساباتنا في KakaoTalk وحاولتُ قراءة اسمه: يونغ هوا.
بعد أيّام، عدتُ إلى المقهى ثانية لشرب الزنجبيل، لكنّ يونغهوا لم يكن موجودًا، ولا حتّى الفتى اللطيف الّذي رأيته في المرّة الأولى، وهذا شيء تكرّر معي في كوريا، ربّما لأنّ الكثيرين يمارسون أعمالاً جزئية لوقت قصير خلال الأسبوع، كنتُ أفتش في الوجوه وحاولت إحدى الموظفات مساعدتي: إنّني أبحث عن صديق .. لا عليكِ، ربّما سأعود ثانية.
وفي يوم مغادرتي لسول، ذهبتُ لزيارة المتحف مرّة أخرى، ثمّ عرجتُ على المقهى على أمل رؤية يونغهوا للمرة الأخيرة، ومن حسن حظّي أنّه كان هناك، على نفس الطاولة مع صديق آخر، واستبشر جدًا برؤيتي وخرج معي خارج المقهى، أخبرته بأنّه يومي الأخير في سول وقد مررتُ للوداع، طلب منّي التقاط صورة أخيرة وفعلنا ذلك، وعندما غادرت أرسل لي رسالة قصيرة أثّرت بي كثيرًا : الوداع، أراكِ قريبًا.
قد تبدو هذه العلاقات عابرة لكنّها ليست كذلك بالنّسبة لي، فهي علاقات مستوطنة، ربّما ليست طويلة في ظاهرها لكنّها عميقة حين أنظر إليها من الدّاخل.
في التدوينة القادمة سأتحدّث عن السّبب الرّئيسي الّذي زرتُ كوريا من أجله: الخريف ..
لقد سعدت كثيرا بقراءة تدويناتك الاخيرة كثيرا فأنا أيضا مهتمة بالسفر بأقل التكاليف لأسباب كثيرة منها تكوين صداقات مثل هاته التي حضيت بها,, ربما يتحقق حلمي في القريب و أحضى بمقابتك يوما
دعيني اخبرك انني خلال قرائتي لهذه التدوينة كانت تغمرني سعادة فائقة و كأني انا من عايش هذه الأحداث , ربما هدا من صدق وصفك و صدق مشاعرك
دمتي مبدعة
الله يخليك ♥️ وكانت فرصة سعيدة لتصفّح مدونتك.
مستمتعة جدا بقراءة هذه التدوينات، وبنقلك الحي الدافئ لكل ماعايشتيه، أنت تحققين أحد أحلام حياتي بتجربتك هذه، شكرا لكل ماكتبتيه.
تسلمين آمال، شكرًا لك فرحت فيك ..