مثل كثير من النّاس، عندما كنتُ صغيرة كنتُ مفتونة بالرّبيع، بمفهوم الرّبيع ذاته، الازدهار والنموّ وعودة الحياة وألوان الورود، يرتبط الرّبيع بالورود، ولطالما أحببته وحلمتُ به، كانت الصّورة المثالية في ذهني لسفر سعيد هو السّفر الرّبيعي، الاستلقاء على عشب أخضر رطب، أخضر جدًا، تخيّلتُ الورود الحمراء والصّفراء والبنفسجية حولي، الأشجار في أوج رونقها، في أشدّ ألوانها اخضرارًا، لا يمكن للحياة أن تكون أكثر جمالاً، حتّى شعور النّاس يصبح مختلفًا في الرّبيع، يخضرّ هو الآخر، حتّى أنّ البعض يقول: قلبه أخضر .. في وصف الإنسان المحبّ الحسّاس.
أمّا الخريف فلم يكن جذّابًا، برياحه الثقيلة وصريرها المخيف، بأوراقه المصفرّة وأشجاره العارية وجوّه الكئيب، ما هو الخريف إلاّ بداية الرّحيل؟ الاقتراب البطيء من الموت، رعشة السّكرات، أغاني النّهاية.
ولا أذكر متّى بالضبّط كانت أوّل مرّة نظرتُ فيها إلى الخريف ورأيتُ شيئًا مختلفًا، الموت في أجمل صورة يمكن للكائنات اختيارها، حفلة تأبين جماعيّة تشترك فيها الأشجار وتتراقص، تتحرّك الألوان عبر الأوراق وتتحرّك الأوراق عبر الرّياح، ومنذ تلك اللحظة وأنا مسحورة تمامًا بالخريف، أفتّش عنه، عن مقاطع فيديو للخريف، عن أجمل الأماكن في العالم وقت الخريف، عن الخريف في مختلف القارات والدول والمناخات.. الخريف .. الخريف .. الخريف .. ما أدهشني بالخريف!
وعندما قرّرتُ زيارة كوريا قرّرت أن أفعل ذلك في الخريف، وكنتُ اشتركتُ في رحلتين خارج العاصمة سول لرؤية الأشجار الملوّنة تغطّي جبال كوريا، وعلى الرّغم من أنّ هاتين الرّحلتين كانتا عظيمتان جدًا إلاّ أنّني أؤكّد لكم بأنّكم لا تحتاجون إلى الخروج من سول كي تتمتّعوا بتجربة لا تُنسى مع الخريف، فحدائق سول الطبيعية كانت ملوّنة وجميلة وآسرة بما فيه الكفاية، حتّى الأشجار الممتدّة في الطّرقات تأسر العينين وتختطف القلب.
حديقة الأولمبياد:
في ثاني أيّام زيارتي لسول ذهبتُ إلى حديقة الأولمبياد شرق المدينة، لم أكن قد اعتدتُ نظام المترو بعد فأخطأتُ في مسار القطار، إذ أنّ الحديقة تقع في مفترق مسارين لنفس الخطّ، وانتهى بي الأمر في آخر محطّة في أقصى شرق سول، ونزلتُ فيها حيث كانت خالية من النّاس باستثناء عجوز واحدة تنظّف المكان.
عبر القطار المعاكس استطعتُ الوصول إلى الحديقة. لا زلتُ أتذكّر جيدًا اللحظة الّتي صعدتُ فيها على آخر درجة في مخرج المحطّة ورأيتُ الحديقة عن يميني، لا زلتُ أتذكّر كيف وقفتُ محاذية السّور أشاهد الأطفال يلعبون بالدرّاجات وسط حقل ممتدّ من الأشجار الملوّنة، أتذكّر هذا بوضوح لأنّني أحببتُ سول هناك في تلك اللحظة، فحتّى ذلك الوقت كنتُ لا أزال مصابة بوعثاء السّفر وكنتُ أسأل نفسي: ما الّذي جاء بي إلى هنا؟ لا شيء يستحقّ! إنّها مدينة عادية ما الّذي أفعله وحدي فيها؟ لكنّ حديقة الأولمبياد أذهبت بكلّ هذه المشاعر وتركت بي أثرًا لا أستطيع وصفه.
في البداية، كنتُ أمشي مسافة صغيرة ثمّ أتوقّف أو أجلس للتأمّل لوقت طويل، لا زلتُ أتذكّر الّذين رأيتهم حينها، العجوز الّذي كان واقفًا أمامي يراقبني من بعيد وأنا أصوّر الطريق، المرأة الأنيقة جدًا المزهوّة بكلابها الصغيرة، الطّفل الّذي كان يقود الدرّاجة من الشارع الجانبي متّجهًا إلى الحديقة، من النّادر جدًا أن أستغرق في اللحظة، من النّادر أن يحضر ذهني إلى هذا الحدّ الّذي تكون فيه ذاكرتي بهذه الجودة، إنّ عقلي يعيش في توهان مستمرّ.
ومشيتُ لمسافة طويلة، ورأيتُ المزارع المحليّة بأدواتها البسيطة تمتدّ حولي، ورأيتُ العوائل الجميلة، هل تحدّثتُ عن جمال العوائل في سول؟ إنّ الثّقافة الاجتماعية الكورية مترابطة جدًا، ولذلك تجد أنّ الخدمات العامّة تتّجه لخدمة هذا التّرابط، رأيتُ دراجات صمّمت للأمهات حيث يعلّقن أطفالهنّ عليها في كرسي آمن أمامهنّ، رأيتُ الكثير من الأسر الّتي يمارس جميع أفرادها ركوب الدراجات على اختلاف أعمارهم، رأيت عجوزين يساعدان والدهما الطّاعن في السنّ على أداء رياضة بسيطة في الحديقة، ورأيتُ امرأة عجوز مع ابنها الشاب يطعمان الأسماك في بركة صغيرة.
ثمّ قرّرتُ مغادرة المكان والاتّجاه لزيارة متحف، وكنتُ أعتقد أنّني أمشي باتّجاه المخرج وأنّني قد أنهيتُ زيارة المكان، لكنّني فوجئت بنفسي في ساحة واسعة جدًا تضجّ بالنّاس والأشجار .. الأشجار من جديد .. والنّاس من جديد، ولم أستطع الخروج، رغبتُ في البقاء حتّى تغيب الشّمس، ومشيتُ ثانية بعد أن اشتريتُ من إحدى المكائن عصيرًا منعشًا، وفهمت بأنّ هنالك مهرجان غنائيّ ما لفرق indie، لكنّه لا يستهدف السيّاح بتاتًا فلا توجد أيّ إرشادات بالانجليزية، والواقع أنّني لم أشاهد الكثير من السيّاح في هذه الحديقة، ولا في حدائق سول عمومًا، فزيارة كوريا بالنّسبة للكثيرين تعني التسوّق والاحتفال في البارات ولا يوجد الكثيرون ممّن يقدّرون جمال طبيعتها.
حديقتيّ هانغانغ ويويدو:
في ثاني نزهة لي مع تشوكي اتّفقنا للذهاب إلى حديقة يويدو (여의도)، ولكنّني أخطأتُ الطّريق وذهبتُ إلى حديقة هانغانغ (한강) القريبة منها والمطلّة على نهر الهان، يبدو الأمر رومانسيًا كلّما تذكرته، أن أقصد حديقة طبيعيّة فأتوه في أخرى، وقضينا أنا وتشوكي أكثر من نصف ساعة نحاول الوصول إلى بعضنا، وانتهى الأمر بها في مكاني ولم أقتنع بأنّ الخطأ خطأي وبأنّني ذهبتُ إلى حديقة أخرى حتّى أطلعتني تشوكي على الخريطة، ومشينا على الشّاطئ لبعض الوقت وأتذكّر بأنّنا تحدّثنا عن النّساء في السّعودية الّتي لا تعرف تشوكي أيّ شيء عنها، ثمّ انتقلنا مشيًا إلى حديقة يويدو السّاحرة ذات الأشجار الكثيفة، كنتُ أشعر بأنّني غرقتُ في لوحة من الأشجار، وحديقة يويدو لا تُقارن في جمالها ومساحتها الهائلة مع حديقة هانغانغ.
في تلك الحديقة أصبحنا أقرب إلى بعضنا وزالت العديد من الحواجز بيننا، سألتُ تشوكي لمّا رأيتُ دهشتها العميقة بالأشجار: ألا توجد لديكم في سنغافورة غابات كثيفة؟ وأجابتني: بلى، ولكنّها مخضرّة دائمًا وليست ملوّنة كأشجار سول في الخريف.
غابة سول:
إذا قمتُ بترتيب أماكني المفضّلة في سول، فإنّ غابة سول سوف تحصل على المركز الثّالث بعد الحديقة الأولمبية ومتحف الحرب، وأنا أعرف بأنّه لو صادف أنّني زرتُ غابة سول في ثاني يوم لي بدلاً من حديقة الأولمبياد لتبدّل رأيي ببساطة، ولكنّها دهشة البدايات.
وغابة سول هي أكثر حدائقها الطّبيعية الّتي زرتها في الخريف اخضرارًا، حتّى أنّني أحاول الآن استحضار أشجار خريفيّة أو متيبّسة فيها فلا أجد في ذاكرتي – رغم وجودها في الصّور -، وعلى ذكر الصّور فغابة سول هي أكثر مكان التقطتُ له صورًِا في رحلتي.
والمميّز في هذه الحديقة هي امتلاؤها بالأطفال من أعمار ومدارس مختلفة، وهي بالإضافة لكونها حديقة طبيعيّة شاسعة المساحة تحتوي على حديقة مغلقة للفراشات وحديقة مفتوحة للنّحل وملاجئ لطيفة ودافئة للحيوانات الضّالة وعلى ملعب كبير جدًا للأطفال ومساحات للتزلّج ومقاهي.
الحمّامات العامّة في هذه الحداىق مميزة أيضًا، فجدرانها مغطّاة بالشجر المتسلّق في مشهد جميل يستوقفك للتفكير في ما إذا كانت هذه حمّامات عامّة حقًا أم مزحة جيّدة، وهي نظيفة من الدّاخل وحديثة.
حديقة أو غابة دريم :
تحدّثتُ عن هذه الحديقة في تدوينة سابقة، وكنتُ قد قرأتُ في TripAdvisor بأنّ هذه الحديقة غير مقدّرة من النّاس كفاية (underrated) ، والحقّ أقول كلّ حدائق كوريا وجبالها العظيمة كذلك ! خصوصًا من قِبل السيّاح، فكّر الآن، كم مرّة سمعتَ بكوريا كوجهة للسياحة الطّبيعية والرياضيّة؟ رغم جمالها وسحرها داخل المدن وخارجها، فـ ٨٠٪ من الأراضي الكوريّة عبارة عن جبال، ومعظم هذه الجابال مغطّى بالأشجار، لكنّ النّاس عادة ما تقصد كوريا للتبضّع ولزيارة الشوارع الحديثة، فكوريا هي وجهة عشّاق الاستهلاك والتسوّق.
ذهبتُ إليها مع جيمي صباحًا، الشيء الوحيد المزعج في الوصول إليها كان اضطّرارنا إلى أخذ باص بعد النّزول إلى المحطّة كي نصل إليها، المواصلات في كوريا كانت يسيرة بالنّسبة لي إلى الحدّ الّذي يصبح معه أخذ باص للتوجّه من محطّة المترو إلى المكان الّذي أقصده أمرًا غير مألوف، وعندما نزلنا من الباص وتوجّهنا إلى مدخل الحديقة لم أستغرب قلّة من رأيتهم فيها، فكما قلت كنتُ قد قرأت عن ذلك في TripAdvisor، بعد أن دخلنا الحديقة توجّهت إلينا امرأة عجوز وصافحتنا وأهدتنا منشورات مسيحيّة، ولا أستطيع عدّ المرّات الّتي حدث معي هذا في سول حتّى أنّه أصبح أمرًا متوقعًا، فالتبشير من قِبل الكوريين شائع جدًا، والأغاني الكنيسيّة تؤدّى في كثير من الشوارع، ولربّما تحدّثتُ عن هذا في تدوينة أخرى.
كانت غابة Dream هي آخر حديقة أزورها في رحلتي وكان الخريف في أوجه حينها، وهي من أكثر الحدائق الّتي رأيتُ فيها أشخاصًا يصطحبون كلابهم الأليفة، حتّى أنّ الحديقة تحتوي على مركز كبير لرعاية الكلاب، صادفتُ في هذه الحديقة أيضًا العديد من القطط الجميلة والأشخاص الّذين يطعمونها ويهتمّون بها، ولا أتذكّر بأنّني شاهدتُ قططًا ضالّة في شوارع سول لكنّهم يتواجدون في حدائقها ومعابدها وهم أكثر توجّسًا من الغرباء من قطط الشّوارع لدينا.
هناك المزيد للتحدّث عنه حول الخريف في كوريا، في هذه التدوينة لم أتحدّث إلاّ عن حدائق سول وحدها، لم أتحدّث عن جبال سول ولا عن المناطق البعيدة عنها والّتي قمتُ بزيارتها خصيصًا لرؤية الخريف، ربّما أتحدّث عنها في مكان آخر، أكتفي بهذا القدر من الكتابة لهذه التدوينة، إلى اللقاء في تدوينة أخرى عن سول.
المرة الأولى التي نظرت فيها إلى الخريف ورأيت شيئا مختلفا غير الموت كانت صور للخريف في اليابان .. وقفت مفتونة بالجمال الذي رأيت هل يعقل, كل هذه الألوان الزاهية ,, هل يعقل أن يكون الخريف شيئا اخر غير الموت ؟
ومنذ ذالك الحين و أنا في علاقة حب مع الخريف
شكرا على هذه التدوينة الدافئة
إليك بعض صور الخريف