في طفولتي ومراهقتي – إذا جاز لي التفريق بينهما – كنتُ مغرمة بتصميم الجداول اليوميّة، أفعل ذلك بدقّة وبهذا الأسلوب:

٦:٠٠ الاستيقاظ من النوم والصلاة

٦:٣٠ الجلوس مع ياسر لقراءة القرآن

٧:٠٠ قراءة كتاب

٨:٠٠ مساعدة جدّتي في غسيل الملابس

وكما يعرف الّذين مرّوا بطفولة تشبه طفولتي، هذه الجداول لا تنجح أبدًا، لا أستطيع ضمان الاستيقاظ عند الساعة السادسة صباحًا ولا إرغام جدّتي على البدء بغسل الملابس عند ساعة محددّة، وإقناع الصغير ياسر بالجلوس معي قد يأخذ أكثر من نصف ساعة أصلاً. مع ذلك لم أكن أتصوّر مطلقًا بأنّ الخلل يكمن في استحالة الالتزام بهذه الجداول الصارمة، بل اعتقدتُ بأنّ الخلل بي وبأنّني لم أنجح في توزيع المهام بشكل صحيح، وهكذا كنتُ أعيد كتابة الجداول كلّ يوم ولا أتذكّر أبدًا بأنّي التزمتُ بأيّ منها.

عندما كبرتُ قليلاً، توقّفتُ عن محاولة توزيع مهامي خلال اليوم أو حتّى كتابتها، وعشتُ بشيء من العشوائيّة الّتي لم ترق لي أبدًا، لم أستطع التفكير بحلّ لأنّ الجداول لا تعمل معي، أقول “معي” لأنّني بسذاجة اعتقدتُ بأنّ هذه الطريقة تنجح مع الآخرين.

في أحد الأيّام كنتُ أحادث صديقتي رقيّة ومررنا بالحديث عن الجداول اليوميّة، قلتُ بحنق: إنّها لا تنجح معي، بدت مندهشة من ملاحظتي: بالطبع إنّها لا تنجح إذا قمتِ بتوزيع المهام بهذه الصرامة، قومي فقط بتحديد أهدافك اليوميّة ثمّ نفذّيها كيفما تشائين خلال اليوم، وبالرغم من بساطة وبداهة الفكرة إلاّ أنّها بدت لي كابتكار رهيب، وهكذا بدأتُ بكتابة مهامي اليوميّة دون تحديد وقت خاصّ بكلّ منها.

 

Pomodoro Technique:

إذا كنت تعرفني منذ ١٠ سنوات تقريبًا فقد تتذكّر تدوينة كتبتها حول تقنية الطماطم أو Pomodoro Technique، كنتُ أعاني من تشتّت في التركيز رغم وجود مهامي المكتوبة، وببحث سريع عن حلول لهذه المشكلة صادفتُ تقنية الطماطم، الفكرة من هذه التقنية هي أن تركّز على مهمّتك لمدّة ٢٥ دقيقة، ثمّ تسمح لنفسك بالتشتتّ عنها لمدّة ٥ دقائق، ثمّ تعود لتأدية مهمّتك .. ثمّ ترتاح لـ ٥ دقائق إلى أن ينفذ وقتك، ساعدني هذا الأسلوب كثيرًا حتّى بعد أن توقفتُ عن الالتزام به لأنّه يعوّدني على محاربة التشتّت بفكرة “ليس بعد، ما زال عليّ التركيز في المهمّة الحالة”، وما زلتُ أعود إلى تقنية الطماطم بين الحين والآخر في الأيّام الّتي يصل فيها تركيزي إلى أسوأ مستوياته – الآن مثلاً -.

أستخدم تطبيق Be Focused على الماك كمؤقّت.

 

الهوس بالرّوتين:

ثمّ عدتُ إلى هوسي بالروتين، وهو هوس مختلف عن هوسي به في الطفولة، أعني بالروتين هنا رغبتي في تكرار تفاصيل يومي مرّة بعد أخرى، أشتري نفس نوع الفاكهة – يوسف أفندي -، أفرزن نفس مقادير السموذي، أزور نفس المقاهي، أمارس نفس الحصّة الرياضية رغم توفّر حصص أخرى متنوّعة، وفي آخر رحلة لي إلى الخارج، بلغ الأمر أنّي كنتُ أتناول إفطاري كلّ يوم في نفس المكان، أمارس نفس النشاط السياحيّ، في الصباح أزور غابة/حديقة/جبل، في المساء أذهب إلى متحف/قصر، في الليل أتسكّع في الأسواق والشوارع، وفي كلّ مرة كانت قدماي تأخذني رغمًا عنّي إلى نفس الأسواق ونفس الشوارع.

إضافة إلى هذا الهوس، اكتشفتُ بأنّي أعمل بشكل أفضل حين أخصّص وقتًا طويلاً لأهداف متوسّطة، لأنّي أقضي وقتًا لا بأس به للدخول في المود والتركيز، ثمّ يصبح الخروج منه صعبًا، فاستحدثتُ ما سمّيته Month Theme، في كلّ شهر توجد ثيمة معينة ألتزم بها، بدأ الأمر بدون قصد منّي ثمّ أصبحتُ أحدّد بنفسي ثيمًا للشهر، غرقتُ في أحد الأشهر بالقراءة حول كتابة السيناريو ومشاهدة الأفلام المشهورة بسيناريوهات رائعة، في شهر آخر كنتُ مهتمّة بمارلين مونرو، قرأتُ مذكراتها وشاهدتُ بعض أفلامها وبعض الوثائقيات عنها، وفي فبراير الماضي كنتُ مهتمّة بتاريخ السود الثقافي والفنّي في أمريكا، سمعتُ العديد من أغاني السول والميسيبسي بلو وقرأتُ عنها، شاهدتُ أفلامًا ووثائقيات حول الفنّانين السود وصراعهم الطويل ضدّ العنصرية .. وهكذا.

بالإضافة لتحديد ثيم للشهر، أصبحتُ أقسّم نشاطي بالأيّام لا بالساعات، أعرف بأنّ مزاجي اليوم وطاقتي الذهنيّة تتّجهان تمامًا إلى الكتابة والقراءة وسماع البودكاست والاسترخاء، أحرص على فعل ذلك كلّه بإنتاجية عالية، لا أضغط على نفسي لتأدية مهام تقنيّة، هذه لها أيّامها الأخرى الّتي أنشغل فيها بالبرمجة أو المشاركة في المشاريع مفتوحة المصدر ومتابعة كورسات تقنيّة.

بفهم هاتين النقطتين، أصبحتُ أسرد جميع مهامي في Todoist مقسّمة حسب مشاريعي، وفي الصباح، وفقًا لمزاجي واتقادي الذهنيّ أحدّد مهام اليوم.

ماذا عن العمل؟

بوجود وظائف منتظمة لثمان ساعات في اليوم، لا نستطيع مطلقًا ترك المزاج ليتحكّم بنا، ولكن عوضًا عن ذلك نستطيع تحديد نقاط قوّتنا وما الّذي يمكن التركيز عليه خلال اليوم، في الأيّام الّتي أميل فيها للاسترخاء وتصفية الذهن، أخصّص وقتًا لا بأس به للقراءة حول مجالي والسماع من زملائي ومراجعة المستندات والمتطلّبات القديمة، لا أضغط على نفسي بممارسة البرمجة طوال اليوم – ما لم تكن هناك حاجة حقيقيّة لي – وإلاّ فإنّي أعرف جيّدًا بأنّ إنتاجيتي لن تكون جيّدة.

 

إدارة الوقت كرحلة

في بداية أحد الأعوام القليلة الماضية – ربّما ٢٠١٥ أو ٢٠١٦ – قرّرتُ دراسة إدارة الوقت وتنظيمه بشكل منهجيّ، ما إن بدأتُ بفعل ذلك حتّى أدركتُ أنّ إدارة الوقت هي رحلة نخوضها للتعرّف على أنفسنا لا شيئًا نتعلّمه بقواعد صارمة.

حين نقرّر استخدام أوقاتنا بشكل أكثر فعالية فإنّنا نتعرّف على أولوياتنا وأمزجتنا وعواطفنا ونقاط ضعفنا وقوّتنا، وما نتعلّمه عن أنفسنا يجب أن يكون مؤثّرًا في إدارة أوقاتنا وألاّ نسمح لأشخاص آخرين يعيشون ظروفًا مختلفة، بأن يقرّروا كيف علينا فعل ذلك.

4 رأي حول “إدارة الوقت كرحلة للتعرّف على أنفسنا

  1. طابت أيامك إحسان، قرأت التدوينة الأخيرة البديعة والتي اعادتني لقراءة ما سبقها – في حال فاتني شيء منها-، فوجدتني هنا: اعيد قراءة هذه التدوينة.

    تذكرت في نهايتها كتاب the atomic habits الذي حملته على كندل ولم ابدأ بقراءته بعد، فخطر لي: هل نقرأه معا؟

  2. أنقذتيني! ظننت أني الوحيدة التي تصارع لأجل تنظيم وقتها! . فعلاً كما قلتِ أنا الآن أتعرف على نفسي أكثر وأكثر، المسألة ليست بتلك البساطة، وليست بذلك التعقيد بقدر ما هي مسألة (بُطء) و (طبخ على نار هادئة). سأقرأ المقالة مرة اخرى بإذن الله..شكرا شكرا🌧🌧

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.