Photo by Mattia Ascenzo on Unsplash

 

في كلّ مرّة يطلق فيها شخص نكتة هجومية أو مهينة للنساء ويسبّب موجة غضب عارمة أو سلسلة من الردود الجادّة على الأقل، تقفز شريحة لا بأس بها من النّاس تتهم أصحاب هذه الموجة بالنكدية وانعدام حسّ السخرية والدعابة، ولقد جعلتني هذه التعليقات أتساءل بيني وبين نفسي: “هل أنا نكدية؟”، فبالرغم من تحفّظي الكبير على المشاركة في حفلات الردود الجماعية، إلاّ أنّني أشعر في داخلي بذات السخط والمقت والتقزّز، هل أنا أبالغ؟ جدّية أكثر من اللازم؟ أحمّل الأمر أكثر ممّا يحتمل؟ فكّرتُ بهذا كثيرًا ثمّ عدتُ لأتأمّل حياتي وانفعالاتي اليوميّة.

قد يخالفني بعض من يعرفني – لا أدري – لكنّ المزاح والسخرية والنكتة هي جزء أساسي وجوهري من تفاعلي اليومي مع نفسي أولاً ثم مع الأخرين، بغضّ النّظر عن “خفّة دمي” أزعم بأنّي شخص مرح وأحاول باستمرار تطوير الحسّ الفكاهي لديّ واختيار عباراتي المرحة بذكاء وحذلقة، أقابل المصاعب اليومية بالسخرية والضحك، أسخر من نفسي أولاً ومن ظروف الحياة ومن أصدقائي المقربين، أضحك معظم الوقت إلى الحدّ الّذي يتعيّن فيه علي إغلاق باب غرفتي أثناء بعض الاجتماعات.

لذلك أستبعد فرضيّة أنّي شخص نكديّ في الأصل، ولكن لنقل أنّي انتقائيّة في اختيار النّكات، فالنكتة ليست مجرّد أداة للضحك واللهو، بل هي أداة للمقاومة أحيانًا، عندما أسخر من إخفاقي العمليّ مثلاً فهذه وسيلتي الدفاعية للتخفيف من تأثير هذا الإخفاق علي، وعندما يسخر النّاس من اكتئابهم أو عللهم الذهنية، فهذه وسيلة للتأقلم والتصالح معها، والنّكتة وسيلة للتطبيع أيضًا، ولذلك نبّه البعض من خطورة انتشار الفيديوهات الفكاهية حول داعش قبل عدّة سنوات، لأنّ التنكيت حول هذه الجماعة تعني تطبيع وجودهم، والنكتة كذلك وسيلة لتمرير الأجندة السياسية – مصطلح النكتة السياسية الّذي أُشبع بحثًا ودراسة -.

وهي أيضًا – وهذه نقطة مهمّة – وسيلة لكسر التابوهات والقدسيات، لكلّ أمّة خطوط حمراء لا يجوز تجاوزها بالسخريّة، بل إنّ من يتجاوزها قد يتعرّض للقتل، ولو كانت “النكتة” مجرّد “نكتة” لما تسبّبت سخرية الصحف الدنماركيّة من النّبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم كلّ هذا التأثير الّذي لا زلنا نلمسه حتى الآن.

لماذا نحن نكديّات؟

عندما تُستخدم جرائم مثل الاغتصاب والتحرّش والتعنيف كمواد للتنكيت، فهذا يساهم في تطبيعها وتمييعها والاستخفاف بها، خصوصًا إذا تمّ لوم الضحيّة ضمنيًا في هذه النكات أو تمّ تبجيل مرتكب الجريمة، كما أنّ هذا الاستخفاف يؤذي مشاعر الضحايا وأهاليهم، وأعتقد بأنّ مروّجي هذه النكات عاجزون عن التعاطف مع الضحيّة وتقمّص موقفها ولذلك لا يفهمون حجم تأثير كلماتهم ونكاتهم.

وهذا يقودني لنقطة أخرى، وهو عجز بعض الرّجال عن فهم تأثير النكات السخيفة الّتي تكرّس صورًا نمطية سلبية حول النّساء، إنّها مجرّد “نكات” بالنسبة إليهم لأنّ تأثيرها يكاد يكون معدومًا عليهم، أمّا من زاويتنا كنساء، فإنّ هذه الصفات الّتي وُصمنا بها فترة طويلة قد أثّرت بشكل مباشر على حياتنا، وفي كلّ مرّة تقرأ فيها امرأة هذه النّكات تستشيط غضبًا لأنّ مصاعب حياتها ليست مادّة للتهريج والهزل، كما أنّ إعادة تكرير هذا النّكات يعزّز الظواهر الثقافية والاجتماعية خلفها.

 

لا وجود لنكتة مجرّدة، حتّى أكثر النّكات سخافة تحمل في داخلها الرغبة بالتواصل مع الآخرين وتلقّي القبول وكسب الأصدقاء، و”التنكيت” ليس مبرّرًا لتمرير الأفكار السامّة، بل إنّه يجعلها أكثر سمّيّة: “أنا أستخف بهذه الظاهرة إلى الحدّ الّذي يجعلها قابلة للسخرية” أو حتّى: “أريد كسب المزيد من المحبّين باستخدام معاناة الأشخاص كمادّة للترفيه”، وإذا لم تتعامل مع هذه النكات بنكدية وتنغيص، فما الّذي يمكن أن تأخذه بشكل جاد؟

رأيان حول “ليست مجرّد نكتة، لماذا نحن نكديّات؟

  1. اتفق تماما مع ما كتبتي
    وأعجبني كيف ذكرتي انك تقومين بتطوير حس الفكاهة لديك لأني أفعل نفس الشيء (قديماً كنت أعتقد أن خفة الدم تولد مع الشخص ولم أكن أعرف كيف أنكت أو أضيف داعبة ) ثم عرفت أن كل شيء يمكن تعلمه وتطويره ومن مبادئي أن يكون التعليق او النكته صادقه ليس فيها تجريح أو تقليل شأن ، كم من نكته هدمت ثقة أشخاص كم من ضحكة في غير محلها قتلت أرواحهم

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.